بدأت قصتها بالخوف؛ خوف من مواجهة الحياة بعد اتخاذ القرار المصيري. شكل الحياة بعد الانفصال كان مجهولًا، وتكوَّنت في عقلها تساؤلات ليس لها إجابة واضحة تقول: “كل الاحتمالات الصعبة كانت في مخيلتي، واستمرت معي سنوات قبل اتخاذي قرار الانفصال، أفكّر في مدى قدرتي على مواجهة الحياة كأم وحيدة.
هل سأستطيع تعويض بناتي عن كل التأثير السلبي الذي سيلحق بهن؟ هل أنا قادرة على أن أعيشهن في نفس المستوى المعيشي المعتاد؟ وهل قراري أناني أم في مصلحة البنات على المدى البعيد؟”.
بعد وقت من المحادثات العميقة التي كانت تجريها بينها وبين نفسها، شعرت بمسؤوليتها تجاه هذا الخيار، قرار الانفصال من الممكن أن يجعلهن يعشن حياة مختلفة ماديًا، وفيها نوع من المعاناة، “ولكن من المؤكد أنه الأفضل لنا، لأضمن أنهن سيعشن مستقبلًا بجروح وصدمات أقل”.

وتضيف الأم التي لم ترغب في المشاركة باسمها حتى لا تتعرض للحكم أو الانتقاد والتي أطلقنا عليها اسم “حواء”: “اكتشفت أن ثمن الانفصال غالٍ، ولكنه يستحق؛ اخترت الاحتمال الأصعب عليَّ وعليهن، ولكنه الأفضل لأنقذ ما تبقى مني، ولأبني لهن مستقبلًا أسلم وأهدأ نفسيًا”
هذا الحوار الداخلي يدور في ذهن أم لابنتين؛ الكبيرة تبلغ من العمر خمسة أعوام والصغيرة ثلاث سنوات. وتضيف: “من هذه التساؤلات الصعبة والمصيرية بدأ انفصالي الداخلي عن هذا الشريك، وبدأت أفكر في مصيري ومصير بناتي وحيدة بين أفكاري وبين كمٍّ هائل من الاحتمالات التي لم يكن سهلٌ علي استيعابها”.
تشاركنا الدكتورة خلود حمد، من وجهة نظر التحليل النفسي السلوكي، نظرة المجتمع وتأثيرها على حياتنا الشخصية، إن النظرة المجتمعية السلبية تجاه “الأم الوحيدة المطلقة” تدفع المرأة إلى بناء صورة سلبية عن ذاتها، مما يؤدي إلى: انخفاض في تقدير الذات والثقة بالنفس، وإهمال الذات، وتردد في القرارات، ولوم الذات، وأفكار قلقة حول المستقبل، وصراعات حول اختيارات الماضي والرغبة في الانسحاب من المجتمع والتكتم عن هذه الاختيارات.

وقد يؤدي ذلك أحيانًا إلى ضغوطات نفسية مزمنة، واضطرابات القلق، والاكتئاب، والوساوس. إن فكرة أن المرأة هي الممثل الأساسي لسعادة الأسرة تُشكِّل ضغطًا كبيرًا يجعلها تشعر بعبء الاختيار، وأن قرارها هو مصير سعادة كل من حولها.
هكذا هي المرأة في المجتمعات العربية؛ تعيش صراعًا بين رغبتها في الحفاظ على الأسرة، وحاجتها في الوقت ذاته إلى حفظ سلامها النفسي. وهذا يخلق لديها إحساسًا دائمًا بالذنب إذا اختارت ما يُشعرها بالراحة، وكأنها خذلت الآخرين.
تعلق الدكتورة خلود “تدخل العائلة يأتي دائمًا بداعي الخوف والقلق؛ لذلك، هنالك العديد من الطرق لرسم حدودك والتخفيف من خوفهم، وهي تقبُّل ذلك حتى يتم التعامل مع الأمر. القبول لا يعني الاستسلام، بل هو نضج لتكوني أكثر وعيًا وحكمة في فهم دوافعهم وكيفية التعامل معها.”

بعد الانفصال تعيش حواء وسط كل الاحتمالات التي كانت ترعبها في الماضي، هي الآن الأب والأم لبناتي”، تواجه الحياة اليومية بكمٍّ هائل من المسؤولية والمحاولات للتأقلم مع حياتها الجديدة في “بيت العائلة”، والذي كان بمنظورهن “بيت الجدة” الذي يقضين فيه زيارات أسبوعية.
تقول حواء “الحياة تختلف هنا؛ لم يكن لدي خصوصية في أيامي الأولى بعد الانفصال لأكون مع نفسي وأستوعب ما أصبحت عليه الآن”. الزيارات شبه اليومية من الأقارب حرمتها من الجلوس مع بناتها بمفردهن لاحتواء مشاعرهن وتساؤلاتهن. “لم يكن قرار ماذا سنأكل وماذا سنشرب لنا. هناك من يشاركني في تربية البنات، وهناك من يعلق على تربيتي وطريقة حواري معهن بشكل عشوائي.”
وسط كل هذه الأصوات، تحاول حواء جاهدة وضع حدود لمساحتها الخاصة مع بناته لتتمكن من العيش بطريقة تشبهها وتعبر عنها، وتدعمها في بقية حياتهن.

من وجهة نظر الدكتورة خلود حمد، اجتماعيًا ترتبط قيمة المرأة العربية في الوعي الجمعي بقدرتها على “الصبر” والحفاظ على بيتها، مما يجعل فكرة الانفصال تبدو “فشلًا شخصيًا” وأبعد ما تكون عن كونها خيارًا صحيًا.
البحث عن الهوية بعد الانفصال هو تحرُّر من فكرة المجتمع والوصمة، ويتطلب مواجهة كل الأفكار المتعلقة بكونها غير قادرة على تحمل المسؤولية. تمر المرأة بمرحلة معقدة من إعادة اكتشاف الذات، إذ تجد نفسها خارج الأدوار التقليدية التي كانت تحدد قيمتها. وتتساءل: “من أنا خارج هذه الأدوار الاجتماعية؟”
بحسب الدكتورة خلود أظهرت الدراسات النفسية والثقافية أن أحد أهم أسباب معاناة المرأة في المجتمعات العربية هو عدم تعلُّمها اختيار ذاتها أولًا؛ فقد نشأت في بيئة تُقدِّس التضحية وتربط القيمة الأنثوية بالعطاء المستمر للآخرين، حتى لو كان على حساب احتياجاتها النفسية والعاطفية.

بعد مواجهة التحديات وحدها، تُخلق لدى المرأة صلابة ومرونة نفسية، مما يجعلها أكثر كفاءة بذاتها واستقلالية، وتميل لتحقيق الذات والبحث عن سعادتها. وهذا ينعكس إيجابيًا على صحتها النفسية وعلى صورة الأطفال لها.
من منظور حواء، علاقة الابنة بوالدها في طفولتها قد تساهم سلبًا في شعورها بأنوثتها وحبها لذاتها مستقبلًا. تقول الأم: “بعد الانفصال، الأب لم يتواصل معهن ولم يسأل، وهذا كان يوترني، وكنت في حالة قلق من الإهمال العاطفي من الأب.”
وتتساءل: “كيف أستطيع حمايتهن من جرح أبيهن لهن؟ وكيف أضمن ألّا يؤثر هذا عليهن في مستقبلهن؟” هذا القلق بدأ مع تساؤلات الابنة الكبيرة التي ظهر عليها نوبات غضب وكأن الأم هي السبب في بعدها عن والدها. “مشاعري كانت متضاربة؛ فمن جهة لا أريد أن يشعرن بتقصير من والدهن، ومن جهة أخرى هو في الحقيقة غير موجود وغير مهتم. فكان هناك جهد مني لأُغطي على تقصيره معهن، بهدف الحفاظ على صحتهن النفسية وحمايتهن من الصدمات.”

وتختم الأم تساؤلها: “هل من مسؤولية الأم فعلًا أن تحمي أطفالها من أي احتمال لوجود صدمة نفسية؟ وهل دورها أن تكون في استعداد دائم للتعامل مع مشاعر الأبناء والحفاظ على نفسية سليمة بقدر الإمكان؟=حخهعلفبيسشء~وضح الدكتورة خلود أن أفضل طريقة ممكنة لتساعد ةتالالبيءسئشبها الأم أطفالها هي أن تهتم بصحتها النفسية. فالأم المتزنة والمتعافية نفسياً ستساعد أطفالها على تخطي أي صدمات، لمجرد كونها مهتمة بصحتها النفسية. هذه التساؤلات بدورها ترجعنا إلى النقطة المحورية التي تثقل كاهل الأم: أن المجتمع يحملها دائماً مسؤولية الوضع النفسي الكامل للعائلة.





