يُعد تعرض النفس البشرية إلى أي نوع من أنواع العنف عتبة فاصلة تتطلب الشجاعة وتضافر الجهود للوصول بالضحية إلى بر الأمان، في مجتمعات تصنف العنف باعتباره جزء طبيعي من التربية والتأديب أو فعل انفعالي مؤقت يكون طرح السؤال التالي ملحّاً، لماذا لا يلجأ ضحايا العنف الأسري إلى طلب المساعدة؟
عرّفت الأمم المتحدة العنف الأسري أو الإساءة الأسرية على أنها، الإساءة المتعمدة بين أشخاص تربطهم علاقات ضمن حدود العائلة الواحدة أو يؤدون وظيفة الأسرة.
الإصابات الجسدية هي أحد أبرز وأخطر أشكال العنف الأسري الذي يتخذ أشكالا عدة بعضها خفية ولا يعترف بها العرف الاجتماعي علناً مثل العنف النفسي والمادي والعاطفي ومؤخرًا العنف الرقمي والذي يُمارس على شكل ابتزاز وتخويف الضحية من وصمة العار، قد تجمع بعض الحالات بين أكثر من نوع ما يفضي إلى أخطار جسيمة على الضحية بدءً من تعرضها للاكتئاب وصولا إلى المرض والإصابات الجسدية.
بحسب الأمم المتحدة، فإن تقديرات معدّل العنف ضد المرأة لعام 2018 الصادر عن هيئات مختلفة تابعة للأمم المتحدة، قد تعرضت امرأة واحدة من كل ثلاث نساء إلى العنف الأسري على صعيد العالم. وقد عانت 22% من النساء اللواتي شاركنّ في دراسة صدرت عام 2011م حول هذا الموضوع، من إصابات ناتجة عن العنف المنزلي تطلبت علاجاً في المستشفى.
ترهيب وتمييز
قد يُستخدم الترهيب والشعور بالذنب والعار لإبقاء الضحية تحت السيطرة ما يضمن عدم خروجها من دائرة العنف، حيث لا توجد صيغة موحدة تُعرّف المصطلح بشكل دقيق وقطعي في ليبيا، إذ من الممكن استثناء حالات “التأديب” التي قد يمارسها أحد أفراد العائلة كالأب أو الإخوة وعدم إدراجها تحت طائلة العنف، بل تعد جزء طبيعي من منظومة التربية خاصًة فيما يتعلق بالبنات.
أدى الصراع المستمر في ليبيا وحالة الاضطراب السياسي، إلى تقويض قدرة الدولة على الحد من العنف الأسري أو استحداث آليات للإبلاغ والدعم والتأهيل، حيث سلطت منظمة العفو الدولية في تقرير قدمته إلى لجنة الأمم المتحدة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة في ليبيا في العام 2024 الضوء على تجذر هذه القضية ” التمييز والعنف بحق النساء والفتيات مستشريين في ليبيا، إذ تواجه النساء التمييز في إطار القانون والواقع الفعلي في المسائل الخاصة بالزواج وحضانة الأطفال وإمكانية تقلد المناصب السيادية”.
استنادًا إلى ذات التقرير لم تَسنّ ليبيا أي تشريعات تتناول على وجه الخصوص العنف ضد النساء والفتيات، يحتكم ملف العنف ضد المرأة والفتيات إلى غاية الآن على ما ورد في قانون العقوبات الليبي فيما يتعلق بالجرائم ضد الأسرة والتي غالباً ما تعيق الأعراف الثقافية والاجتماعية تنفيذها.
ولا تزال مسودة قانون مكافحة العنف ضد المرأة الذي تقدمت به حكومة الوحدة الوطنية بطرابلس في 2017م وأيضا النسخة المنقحة منها في العام 2021م، تائهة داخل أروقة البرلمان الليبي رغم صدى الجرائم الأسرية المدوي والتي لا تهدد فقط الضحايا، بل تشوه القيم المجتمعية والنسيج الاجتماعي.
وتجرم المسودة جميع أشكال العنف ضد المرأة مع تحديد آليات الحماية والوقاية وفصّلت مسؤولية المؤسسات. ربما يكون العام 2023 الأكثر عنفاً، فقد أُبلغ عن أكثر من 1500 حالة عنف أسري وفقاً لتقديرات مركز حماية الأسرة والطفل في طرابلس.
يتذبذب مستوى العنف مع تعمّق القصور المؤسساتي والمجتمعي للقضاء على هذه الظاهرة، حيث هزت جريمة مروعة منطقة الجفرة في وسط البلاد عندما أقدم شاب على قتل والدته بسكين، وفي بنغازي ألقت إحدى الأجهزة الأمنية القبض على مدمن مخدرات قتل والدتها بعد أن تشاجر معها، كما رصدت الكاميرات في العاصمة طرابلس زوج يلقي بجثة زوجته من السيارة بعد أن قتلها محاولاً الهروب إلى منطقة الزاوية. وكشفت مديرية أمن بنغازي في العام 2023 عن جريمة قتل أب لابنته لأسباب تتعلق “بالشرف”.
قلق من سيداو
أدى توقيع وزيرة الدولة لشؤون المرأة “حورية الطرمال” على مذكرة التفاهم الخاصة باتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) في العام 2022م إلى تشكيل لجنة تحقيق معها بعد شّن حملات واسعة تؤكد خطورة المذكرة على القيم الأسرية، ما دفع حكومة الوحدة الوطنية إلى إيقاف العمل مؤقتا بالمذكرة تجنباً لأي شبهات، وقد أغفل الجميع بإن الدولة الليبية في العام 1989 قد وقعت على الاتفاقية المذكورة مع بعض التحفظات.
أُقرت اتفاقية (سيداو) وهي معاهدة دولية اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1979 لإنهاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة.
اعتبر الكثيرين الاتفاقية ودون الاطلاع التدقيق في بنودها، بأنها تؤسس للانحلال وربما تشجع النساء الليبيات على التمرّد، استقى هؤلاء فكرتهم من حملات مضللة على وسائل التواصل الاجتماعي، وبالفعل قضت محكمة الاستئناف في طرابلس بإلغاء مذكرة التفاهم الموقعة مع الأمم المتحدة بحجة معارضة بعض بنودها “لأحكام الشريعة الإسلامية”.
إلى من تحتكم المعنفات في ليبيا؟
خوفًا من التنكيل المجتمعي والسطوة العرفية في حال تقدمت المعنفة ببلاغ أو مشاركة قصتها في العلن، تجد الكثير من المعنفات أنفسهنّ أمام خيارين أحلاهما مرّ، إما القبول بواقع مرير والمحافظة على الصورة الاجتماعية للعائلة من باب “البيوت أسرار” أو تقديم شكوى دون وجود ضمانات حقيقية لحمايتها ومعاقبة الجاني وفقاً لقوانين صارمة تضمن عدم تكرار الاعتداء.
يميل المجتمع الليبي إلى تغليب جانب الصلح على المصلحة الشخصية أو سلامة الفرد. لذا يٌوضع ضحايا العنف تحت ضغط اجتماعي وغالبًا ما يتم إسكاتهنّ، في خضم هذا السياق المُربك يمكن حصر الخيارات المتاحة للنجاة من وطأة العنف إما في انتقال الزوجة المعنفة إلى بيت العائلة خاصةً إذا كانت صغيرة في السن، أو إنّ كانت المعنفة فتاة فهنا يصعب إيجاد حل أو ملجأ آمن مع غياب شبه كامل لدور مؤسسات الدولة أو تخصيص حملات توعية على أقل تقدير.
تتراوح الأضرار التي يخلفها العنف الأسري الموجّه ضد النساء والفتيات من العواقب النفسية والصحية إلى الآثار بعيدة المدى وتقويض مشاركتهنّ الفاعلة في بناء مجتمعهنّ والمساهمة الاقتصادية ما يفاقم تكاليف الرعاية الصحية والقانونية، ومع اتخاذ هذه الظاهرة شكلًا مزمناً، أصبح من الضروري تكثيف الجهود لتفكيك أسبابها ومعالجة آثارها.