كما قيل سابقًا، لا دخّان دون نار، ولا قضيّة دون متّهم.
لا يُمكن للبشر التّواجد في مجموعات دون الارتباط بعلاقات مختلفة، وتعدّ الصداقة من أسمى العلاقات الإنسانيّة الّتي تجعل العالم مكانًا مؤنسًا لطيفًا.
قبل عقدين من الزّمن، كان المجتمع الليبيّ منغلقًا على نفسه، تحدّه أعرافه، وتعاملاته السّائدة. والّتي كانت تعيّب التعاملات بين الجنسين، حتّى في إطار العائلة نفسها.
ولكن مع الانفتاح الّذي مدّ سلطته على العالم؛ تأثّرت ملامح المجتمع الليبيّ، وبدأ التعامل بين الطّرفين يظهر جليًّا في كافّة زوايا الحياة؛ وبدأت “الصداقة” تتسلّل لهذه التعاملات.
لكنّها لم تتمكّن من المرور بسلام. وبالرغم من قدسيّة الصداقة وأهمّيتها، إلّا أنّها عندما وُجدت بين الجنسين صارت متّهمة، وتتمّ محاكمتها على العلن، فما هي التُّهم الملحقة بها؟
الاتّهام الأوّل: صداقة مزيّفة!
يقف الادعاء في هذه المحكمة ليقول: هذه الصداقة مزيّفة، وجذورها ضعيفة. إنّها ليست سوى زمالة يلبسونها ثوب الصداقة.
فهل فعلًا نخلط علاقات الزمالة –في العمل والدّراسة- مع الصّداقة بمعناها الحقيقيّ؟
تمثّل الصداقة أشياءً مختلفة للأفراد، يعتبرها البعض الثّقة المتبادلة، الملجأ من تقلّبات الحياة المؤذية، والعلاقة الّتي تكسر بروتوكولات التعاملات الأخرى.
“الصّداقة رابطة مقدّسة، ومرحلة عميقة من الحبّ والتقدير والاهتمام مش أيّ حد يوصل لها” تعرّف وفاء سليم (26 عامًا) الصداقة من زاويتها باختصار، وتؤيّد الاتّهام قائلة “التعاملات والعلاقات بين الطرفين اليوم موجودة، ولكن في نظري لا تندرج تحت مسمّى الصداقة”
وتعلّل وفاء سبب عدم تصنيفها كصداقة “بالنسبة لي، وجود صديق من الجنس الآخر تنطبق عليه مواصفات الصّداقة الحقيقيّة أمر مستحيل، فطرة الطّرفين النفسيّة والاجتماعيّة تستحيل الوصول لهذا المستوى من الأمان العاطفي مع بقاء المشاعر ودّية كصداقة فقط”
وعند سؤالها عن المسمّى الصحيح لهذه الصّلة أجابت “قد تسمّى زمالة، أو علاقة طيّبة في قالب تعامل معيّن، كتبادل المنافع والعمل والدّراسة، ولكنّها ليست صداقة”
مهنّد بشيوة (23 عامًا) ينفي هذه التّهمة ويقول “أؤمن بوجود صداقة حقيقيّة بين الجنسين، خارج إطار الزّمالة والعلاقات السّطحية، قائمة على الودّ والاحترام وتشارك الاهتمامات”
وشدّد مهنّد على إمكانيّة هذه الصّداقة قائلًا “توجد فرصة تكوين صداقة في حالة الاقتناع التّام من الطرفين بإمكانيّتها والاتّفاق على إبقاء الصلة عند هذا الحدّ”
ولكن لم يكن هذا الاتهام الوحيد الّذي في جعبة الادعاء، فلا ننتهي من أوراق الاتهام الأوّل، حتّى يرمي بالثّاني!
الاتّهام الثاني: الصداقة زيُّ تنكّري!
“تحقق الانجذاب بين الجنسين يتناسب طرديًا مع قدرتنا على التنفس والبقاء أحياء“
هذا ما قالته الكاتبة والمتخصّصة في العلاقات الزّوجية “شيرلي جلاس” في كتابها “ليسوا مجرد أصدقاء“
يقف المدّعي ليقول هنا: سيّدي القاضي، إذا تغاضينا عن كون هذه الصّداقة غير حقيقيّة، فلا بدّ أن تكون زيُّ تنكّري تتخفّى ورائه أهداف عاطفيّة أخرى. حيث أنّ كليشيه “صديقتي فقط” ليست إلّا المحاولة الأولى للإيقاع بالمشاعر وترويضها.
“ما عنديش مشكلة يكون عندي صديق ولد، لكن القصّة ما عمرهاش كمّلت في نمط الصداقة، ديما تاخذ منحنى ثاني من ناحيته، وصارت أكثر من مرّة لدرجة صكّرته الباب” تبرهن تجربة (ر.ص/ 20 عامًا/ طالبة جامعيّة) تهمة الادعاء، على أنّ هناك نوايا أخرى تتجلّى لاحقًا، بعد مدّة من الصداقة.
لـ (ف.م/ 28 عامًا) وجهة نظر مختلفة قليلًا “الصداقة بين الشاب والبنت مرهونة بوقت فقط، مرّات فعلًا الشّاب أو البنت مش في نيّتهم إن يتحوّل الأمر إلى مشاعر ثانية، لكن إذا كانت اللقاءات بشكل مستمرّ والعلاقة قويّة، بلا شكّ ستتطوّر المشاعر في نقطة ما”
في تقرير خاطبت فيه صحيفة الدايلي ميل البريطانيّة النّساء بعنوان “عذرًا يا سيّدات- نحن الرجال لا يمكن أن نكون مجرّد أصدقاء” تصدمهم أنّ معظم الرّجال لا يخوضون علاقة دون وجود هدف عاطفيّ، حتّى إن لم يتمّ التصريح به، لكن دائمًا ما توجد فرصة.
وبحسب التقرير، فإنّ تحوّل المشاعر من عاديّة إلى عاطفيّة يكون غالبًا من جانب الشباب.
يشارك (ف.م) تفسيره لهذه النّقطة “الدوافع اللي تغيّر تعامل الشّاب من عادي إلى عاطفي في العلاقات بسيطة جدًا في منطقتنا، وأهمّها إن يلقى اهتمام، على عكس البنات اللي ممكن تكون متطلباتهم أعمق وأعقد”
وتؤكّد وفاء تفسير (ف.م) بقولها “طبيعة الصّداقة بين البنات معبّية مودّة واهتمام، على عكس الصداقات بين الشّباب اللي تكون محصورة في نمط معيّن، والتّعبير على المعزّة بيناتهم يختلف تمامًا على طريقة البنات. لمّا تصير صداقة بين الطّرفين، تقعد البنت تشوف للموضوع إنّه عادي، بينما ينجرف الشّاب وراء مشاعره الناتجة عن الاهتمام”.
يقف مهند بشيوة مجددًا ضدّ التهمة “نعم الانجذاب يصير ولكن مع هذا، يقعد الأمر في مستوى الصداقة لمّا يتواجد الذكاء العاطفي عند الشخص، لأنّ المشاعر زي السّيل، لو الشّخص ما عرفش كيف يتحكّم ويعوم فيها، ستجرفه وسيخرج الموضوع عن السيطرة”
ويكمل “مع إنّ هذا النوع من الذكاء غير موجود بشكل كبير عندنا. ولأنّ حتى المنطقة والمجتمع ليهم دور كبير”
ومن هذه النّقطة ننتقل إلى جزء أخر من المحكمة، وهذه المرّة نعطي الفرصة للدّفاع.
الدّفاع: جذورنا هي السّبب!
“هذا كلّه على خاطر موجودين في ليبيا، والمجتمع تفكيره قاعد منغلق ومحدود، وتربّينا على إنه غلط، كنهادة علاش في العالم برّا موجود الموضوع عادي؟”
ليس من المُنصف وجود محكمة دون مرافعة للدّفاع، وأدلّة على زيف التّهم وبهتانها. يقف المرافع هنا ليُلقي بالدّليل السّابق على طاولة المحكمة، وأعتذر عن ذكر اسم الشاهد هنا، لأنّه كان أشخاصًا عدّة تشاركوا الرأي نفسه كلّما طرح الموضوع للنّقاش.
يُرافع الدّفاع قائلًا:
إن كانت التُّهم السّابقة مثبتة فعلًا على موكّلتي “الصداقة” فذلك فقط لأنّها تواجدت في البيئة الليبية، بسبب الموروث الثقافيّ، والديني.
“عشت في أوروبا لسنين، وكانت الصّداقة فعلًا موجودة، لأنّ كان فيه تقبّل للفكرة في مجتمعاتهم، بينما في بلادنا الموضوع معقّد ويبان مستحيل بسبب العادات والأفكار اللي ما زالت مترسّبة فينا” ينقل لنا مهنّد تجربة عايشها عندما كان مقيمًا بالخارج، مؤكدًا أن البيئة هي السّبب.
عن تأثير البيئة والموروث الديني في هذه القضيّة تقول وفاء “بالتأكيد الدّين من الأمور اللي تنطلق منها الأفكار في مجتمعنا. والحقيقة في الأمور المحيّرة ما فيش مرجع أفضل يُفصل في الأمر. لأنّ الدّين في صلب الحياة مش مجرد كماليّات”
وتؤكّد على صحّة الاتهامات انطلاقًا من هذا الجانب بقولها “في الإسلام ما فيش متّسع لهذا النوع من العلاقات، وبالطّبع المقصود مش العلاقات القائمة على الاحترام والتّعاون والنّية الطيبة، ولكن العلاقات اللي فيها قُرب أكثر من اللازم وخارج الضّوابط الصّحيحة”
ولكن لنضع كلّ هذه الأمور جانبًا، ودعنا نتساءل:
إذا كان الأمر مجرّد انعكاس لمعتقدات دينية، وجذور لأعراف المجتمع المتحفّظة. لماذا طُرِح الموضوع على الدايلي ميل البريطانيّة؟ ولماذا قال أوسكار وايلد “بين الرجال والنساء لا توجد صداقة ممكنة، فقط: هناك العاطفة والعداوة والحب“؟ ولماذا تناولت كاتبة أمريكيّة الموضوع في كتابها “ليسوا مجرّد أصدقاء”؟
عزيزي القارئ، تنتهي المرافعة هنا، ليبقى الحُكم لك. هل هذه الصّداقة بريئة، أم تستحق الاتّهام؟