في بلد يمتدّ ساحله قرابة ألفيْ كيلومتر، من البديهي أن يكون البحر الأبيض المتوسّط وسكّانه من الكائنات البحرية، أحد أهمّ الثروات الطبيعية، وأحد أكثر المعالم البيئية حضورًا في الثقافة والوجدان.
من العاصمة التي تسمّى عروس البحر، حتى المطبخ الليبي الزاخر بالأكلات البحريّة اللذيذة، وسوق الحوت الذي يُعدّ مَعلمًا من معالم المدينة في كلٍّ من بنغازي وطرابلس.
والبحر الذي نعهده نحن، مواليد نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن، لا يُماثل ذلك الذي عاصره آباؤنا وأجدادنا.
إذ يتمايز عنه للوهلة الأولى في لونه الذي طغى عليه التلوّث، لكنّ الاختلاف الحقيقيّ، هو اختلافٌ لا نلحظه، اختلافٌ في درجة حرارة البحر نتيجة تأثّره بالاحتباس الحراريّ الذي تعانيه الأرض، واختلاف في البيئة البحرية.
والنتيجة النهائية لكلّ هذه العوامل؛ هي اختلاف أنواع الأسماك وأعدادها. مشكلة تتطوّر بمرور الوقت، ولن نلحظ تأثيرها على الكائنات البحرية في ليبيا بشكل كبير في السنوات القليلة القادمة، رغم ظهور علاماته، لكنها عندما تصير ملحوظة، سيكون الوقت ربما قد فات على التعامل معها.
“من الصعب وصف المشكلة بالأرقام، أو معرفة حجمها الحقيقي، وذلك لغياب أيّ بيانات تعكس الوضع البيئي للشاطئ الليبي”
توضح لي أ. سارة المبروك، باحثة في علم الأحياء البحرية، وصاحبة الموقع المتخصّص “علم الأحياء البحريّة في ليبيا” وصفحته النشطة على منصّة التواصل الاجتماعي، الفيسبوك؛ باسم “Marine Biology in Libya“.
جهود سارة التطوعيّة فرديّة، ولا تتبع أيّ جهة حكومية أو غيرها، وهي تهدف إلى توعية الصيادين وغير المتخصّصين بالمشاكل التي تهدّد بيئتنا البحرية. الصيّادون كانوا أهم صلة بين سارة والبحر، وبفضلهم تمكّنت من صنع تغييرات حقيقية، وأيضًا من نشر عدّة ورقات بحثية.
الصيد صلة الإنسان الأولى بالبحر، ومنذ أوّل مرّة خطا فيها بَشَرٌ وسط الأمواج مقلّدًا سلوك حيوان أو طائر؛ وعلاقتنا بالبحر لم تنقطع؛ لكنّها تغيّرت، كما تغيّرت صلتنا بالطبيعة كلّها، عندما صار الإنسان سيّد الطبيعة وليس جزءًا منها، وعندما تغيّر الصيد من وسيلة الحصول على قوت يوم فرد أو عائلة، إلى مهنة، يزداد مردودها بازدياد ناتجها النهائي.
“اليوم يشكّل الصيد الجائر وغير القانوني، أكبر التهديدات لصحة الحياة البحرية في شواطئنا”
تقول سارة، وتوضّح أنّ الصيد البحريّ الجائر، تلك الممارسة التي لن ندرك مدى ضررها الآن بل بعد سنوات، لا تؤذي الأسماك فقط، لكنّها تؤذي البيئة البحرية بالكامل، من الشعب المرجانية حتى الكائنات الميكروسكوبيّة. مؤدّية إلى حِرمان الأسماك من النّظام البيئي الذي تعتمد عليه للعيش.
وانعدام الظروف المناسبة للأسماك؛ يعني أنها ستبحث عن ظروف أكثر ملاءمة، ومن هنا تبدأ عملية إزاحة الأسماك وهجرتها بعيدًا.
الصيد الجائر وغير القانوني هو صيد الأسماك بالمتفجّرات، وقد تطوّر في السنوات الأخيرة من استخدام الديناميت البسيط إلى استخدام الأسلحة الأكثر خطورة على الأسماك والصيّاد معًا.
هذه الممارسة مجرّمة قانونيًا حول العالم، وفي ليبيا أيضًا، إذ يقع المخالفون تحت طائلة القانون رقم 14 لسنة 1989 الخاص بتنظيم استغلال الثروة البحريّة، لكن القانون لا يطبّق في غياب وجود سلطة تنفيذية تتابع تطبيقه.

من المشاكل الأخرى المتصلة بصيد الكائنات البحرية في ليبيا هي صيد الأسماك في فترات تكاثرها، وفي مواسم وضع البيض خاصة، حيث تقترب الأسماك من الشاطئ بشكل كبير، ومن دون الوعي، تكون هذه الأوقات فرصة سانحة لاصطيادها. لكن هذه المواسم هي ما يضمن وجود أجيال قادمة من هذه الأسماك.
وتصبح مشكلة الصيد الجائر، أكبر وقعًا عندما يتعلّق الأمر بالأسماك المهدّدة بالانقراض، والتي يُفترض أن يتوقّف صيدها بشكل تامّ، للمحافظة على وجودها.
من هذه الأسماك: سمكة السفن أو القرش الملائكي “Angel Shark” والتي تظهر على الشواطئ الليبية بشكل مستمر، لكنّها اختفت تمامًا من عدّة مناطق في البحر المتوسط. صيد هذه الأسماك يهدّد الأعداد القليلة المتبقية منها، وقد يدفعها لتكون قصّة تراجيدية أخرى من قصص الكائنات التي فقدناها للأبد في السنوات الأخيرة.
وبنفس النسق، تعاني أسماك أخرى من الإفراط في صيدها لجودتها الغذائية وطعمها اللذيذ. من هذه الأسماك المهدّدة: أسماك الفرّوج، ويمكن حلّ هذه المشكلة بمراعاة صيدها فقط عندما تكون أطوالها أكبر، وهو ما يعكس عمرها، وفقدانها القدرة على التكاثر، وتجنّب صيدها في مواسم وضع البيض كما سلف.
تقوم سارة بالتوعية بهذه المعلومات المهمّة، وغيرها الكثير. وقد استقيتُ جُلّ معلومات هذا التقرير من حديثي معها، ومن الموقع المتخصّص الذي تشرف عليه. ويبدو أنّ صوتها قد وصل؛ إذ أنّ لحملتها الآن تأثير ملموس يمكن رؤيته في الفيديوهات الموجودة على صفحة الموقع بالفيسبوك، والتي يُرسلها صيّادون يُعيدون بعض الكائنات البحريّة، كالسلاحف وسمكة ملاك القرش إلى البحر.
التوعية خطوة مهمّة، لكن فعاليّتها تحتاج وجود قوانين تشرّع هذه الممارسات وتنظّمها، “لا يمكن لوم الصيادين على الإطلاق” توضّح سارة.
ففي غياب وجود نقابة تحمي حقوق الصيّادين، أيضًا غياب الجهات الحكومية التي ينبغي أن تشجّع الممارسات الصحيحة، مثل: منع الصيد في مواسم التزاوج بتوفير دخل بديل للصيّادين. وتطبيق العقوبات في حالات الصيد الجائر، وصيد الأنواع المهدّدة بالانقراض؛ فلا يمكن أن نتوقع من جميع الصيّادين أن يفضّلوا حماية البيئة البحرية على كسب المال!
مع ذلك، فإنّ الخيار الفردي للحفاظ على البيئة، بما فيها الكائنات البحرية في ليبيا لايزال المحرّك للكثير من الصيادين.
نوري الزرّوق 58 عاما، صيّادٌ من طرابلس، يُمارس الصيد منذ 20 عاما، وأدواته الرئيسية هي الصنارة والشبكة والقصبة.
يعترض نوري بشدّة على الصّيد الجائر، ويرى أنه يضرّ البيئة البحريّة ويسبب في “نزوح الحوت” وهو تصرّف غير أخلاقي، وغير وطني لأنّه يُضرّ الثروة الوطنية. والمال هو الدافع الأكبر في رأيه، ففي الوقت الذي يقضي فيه يوما كاملا في الصيد، يمكن لشخص آخر أن يصطاد نفس الكمية في وقت أقلّ بكثير، وأن يضاعف ربحه.
نوري أيضًا يرى أنّ الصيد بالجرّافات ينبغي أن يُمنع في شهر يونيو للحفاظ على بيض الأسماك التي تتكاثر حينها، ويرى أن الحلّ لكلّ الخروقات في مجال الصيد؛ هو أن يتحسّن وضع البلاد، وعندها يمكن الالتفات لهذه المشاكل وحلّها.
وفي الوقت الذي لازلنا نعتمد فيه بشكل أساسيّ على الموارد غير المستدامة، كالنفط والغاز، ننسى الحفاظ على الموارد المستدامة التي يوفّرها لنا البحر. وفي وقتٍ يزيد فيه الوعي تدريجيًا حول العالم بالبصمة البيئية التي يتركها البشر على موطنهم الأرض، لا قوانين هنا تجرّم دفع الكائنات البحرية للانقراض أو تهديد مساكنها.
“الحوت والصبارص والليم القارص” تتمتم عجوز ليبية لدفع العين. في ثقافتها يُعدّ السمك ذو مكانة غالية وعزيزة، حتى إنّها يمكن أن ترتدي قلادة تتدلّى منها “حوتة” من ذهب لتجنّب الحسد والعين.
لعلّ الآن هو الوقت الأمثل لاسترجاع مركزيّة السمك، وأهميّته في الثقافة الليبية، علّه ينعكس على الاهتمام بأنواعه التي تسكن شواطئنا، وتدعم مجتمع الصيادين، وتنتج شغفا علميّا ملهما.
أعجبني المقال من حيت الطرح والموضوع والتروة السمكية تستطيع ان تكون جزء كبير من الدخل القومي لو كان في عقول
الحفاظ على الطبيعة لايقل أهمية على الحفاظ على الهوية الوطنية