مقالات

احتراق وظيفي وحقوق ضائعة

تعتبر كرامة العمل من أبرز القيم التي ينبغي أن تحكم بيئة العمل في جميع القطاعات، سواء العام أو الخاص، فهي تمثل حجر الزاوية في بناء مجتمع عادل ومزدهر، وفي ليبيا، يتوجب علينا التأكيد على أهمية تطبيق مبادئ العمل بكرامة لضمان التنمية الشاملة، لاسيما وسط ظروف العمل التي تهيمن على المشهد في البلاد التي تعيش في ظل المراحل الانتقالية منذ أكثر من عقد من الزمن.

في الوقت الذي تنص فيها القوانين السارية في ليبيا على حقوق منصفة وعادلة – إلى حد كبير – للعاملين في القطاعين العام والخاص إلا أن هذه القوانين تتكسر على صخرة الواقع، فقد اضطر الأستاذ الجامعي عماد 48 عاما إلى التقاعد المبكر نتيجة بيئة العمل الطاردة.

حيث يقول “بعد قضاء أكثر من 20 عاما في التدريس الجامعي قررت أن اتقاعد اختياريا بعد أن أصبح العمل بالجامعة يؤثر على صحتي ويرهقني نفسيا، لم أعد استمتع بالتدريس والتواصل مع الطلاب، بيئة العمل سيئة جدا فلا يوجد لدينا مكاتب ولا دروات مياه نظيفة ولا مكتبة”

“باءت كل محاولاتي لإطلاق بعض المبادرات والنشاطات بالكلية بالفشل فتوقفت عنها وبحثت لها عن بيئة أفضل خارج بيئة العمل”

“كنت استمتع بالتدريس تحولت إلى موظف حكومي يقوم بأداء عمله بشكل روتيني بأقل مجهود ممكن، أدركت أنني أصبت بالاحتراق، لذلك قررت أن أغادر قبل أن أفقد إنسانيتي واتحول إلى كائن بغيض لا هم له سوى الانتقام وإلحاق الأذى بمن يعمل معهم”.

ومن خلال هذه الشهادة نلمس خرقا واضحا في حقوق أعضاء هيئة التدريس حيث تغيب مقومات العمل وظروفه الصحية من خلال انعدام المكاتب والمرافق اللازمة لإتمام العملية التعليمية.

عدا عن ما أكده عماد من انعدام التأمين الطبي لأعضاء التدريس في الجامعات وهو ما يتعارض بشكل صريح مع المادة رقم مادة  (38)من قانون العمل  رقم (12) لسنة 2010 بشأن إصدار قانون علاقات العمل و لائحته التنفيذية.

والتي تنص “على جهات العمل إجراء التأمين اللازم على العاملين أو الموظف بها ضد أمراض وأخطار المهنة، وأن توفر الرعاية الصحية والحماية الاجتماعية اللازمة لهم ولأفراد أسرهم، وذلك مع عدم الإخلال بأي نظام قانوني آخر.”

وعند الاطلاع على القوانين والتشريعات الليبية النافذة والاتفاقيات التي وقعتها ليبيا في مجال حقوق العاملين عبر عضوياتها في المنظمات العربية والإقليمية والدولية، تجد انها تغطي كافة الجوانب وتصون كافة حقوق العاملين في القطاعين العام والخاص.

لكن عند النزول إلى الميدان تجد أوضاعا مختلفة تماما، بل وتتعارض في كثير من الأحيان مع القوانين والتشريعات، كما أن غالبية النقابات غابت عن أداء أدوارها في حماية منتسبيها وضمان حقوقهم.

فقد أكدت لنا رجاء 30 عاما طبيبة أن العلاقة الوحيدة التي تربطها بنقابة الأطباء تقتصر على دفع الاشتراكات السنوية للحصول على إذن المزاولة كما اشتكت من اشتراطات تعجيزية تعيق الأطباء من تطوير آدائهم والتقديم للحصول على الزمالة والتي تشترط أن يكون الطبيب معينا في أحد المرافق الطبية العامة.

في وقت أوقفت فيه وزارة الصحة التعيينات منذ عام 2016 إلا على نطاق ضيق جدا، وعن المعينين من الأطباء في المستشفيات تقول رجاء” لا يوجد مميزات، ولا علاوات، ولا بدل خطر، ولا تطبق زيادات دوام أيام العيد أو العطلات رسمية”.

يتعارض هذا الأمر بشكل صارخ مع ما نص عليه قانون العمل في مادته 16 ” إذا اشتغل العامل أو الموظف في يوم راحته الأسبوعية وجب أن يعطى يوما بديلا خلال الأيام الثلاثة التالية أو أن يدفع له بالإضافة إلى مقابل عمله المعتاد ما يعادل مثلي مقابلة العادي في الساعة عن الساعات التي اشتغلها يوم راحته.

وفي حالة تشغيله ساعات عمل إضافية لمواجهة ضغط العمل فإنه يستحق بالإضافة إلى مقابله الأصلي مقابلا إضافيا لا يقل عن (50%) زيادة على المقابل المعتاد وعلى الأ تتجاوز ساعات العمل الإضافي ثلاث ساعات في اليوم الواحد”.

وأشارت الطبيبة إلى أنها لم تتقاض راتبا مقابل فترة تدريبها على مدار عام كامل والتي من المفترض أن تكون مدفوعة وبأنها توجهت للقضاء رفقة زميلاتها بانتظار إصدار حكم لهن.

فيما أشارت إلى أن ظروف العمل في القطاع الطبي بشقيه العام والخاص لا تلبي أدنى متطلبات العاملين سواء من عناصر طبية أو طبية مساعدة عدا عن كون الأطباء يعملون في القطاع العام بمرتبات متدنية جدا ما بين 7، 6 دينار عن كل ساعة عمل

وفي بعض الأحيان يكون الأجر وفقا للحالات ما يجعل من المقابل الشهري أقل من الحد الأدنى للأجور وفقا قانون رقم 16 لسنة 2023 م بشأن تحديد الحد الأدنى للمرتبات والأجور والذي نص على ضرورة ألا يقل عن 1000 دينار شهريا.

التقينا ب ميس 25 عاما معلمة تربية خاصة والتي شاركتنا بدورها تجربتها في العمل في القطاع الخاص والتي قالت بأنها “لم تكن سيئة” فيما أكدت عدم معرفتها بقانون العمل وأشارت بأنه لم يكون ضمن تفاصيل التعاقد أساسا، ولكنها تعمل براتب يبلغ 450 دينارا شهريا.

وهو ما يتعارض مع الحد الأدنى للأجور وفقا للقوانين، كما أن عملها لا يخضع لعقود موثقة في وزارة العمل والتأهيل، وأرجعت السبب في ذك إلى أرباب العمل الذين لا يسجلون هذه العقود، ربما رغبة منهم في التنصل من المسؤولية القانونية ولتوفير المصاريف أو التهرب الضريبي، ولكون العامل هو الطرف الأضعف في التعاقد فلا يستطيع إجبار رب العمل على توثيق العقود.

وفي حين تعتبر المواثيق الدولية والمحلية، مثل ميثاق العمل العالمي، مرجعاً هاماً لتأكيد أهمية العمل بكرامة، ويتضمن الإعلان الدستوري الليبي ضمانات دستورية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية.

بما في ذلك حق العمل بكرامة إلا أن تحقيق ذلك يمثل تحديات عديدة في الواقع الليبي، سواء في القطاع العام أو الخاص، تشمل هذه التحديات غياب القوانين واللوائح الواضحة التي تحمي حقوق العمال، وانعدام الشفافية في إدارة الشؤون العمالية، وارتفاع معدلات البطالة وعدم الاستقرار الاقتصادي.