مقالات

البيروقراطية في ليبيا.. خُشّ البلاد بهلها

صراع ماراثوني يخوضه معظم الليبيين عندما يتعلق الأمر بإتمام أي إجراء من إحدى الدوائر الحكومية، تحديات هائلة تواجه عملية التحول الرقمي في ليبيا، إذ باتت هذه الجملة مثار تنذر عند أغلب الليبيين لكثرة الحديث عنها دون تحقيق أي اختراق يقضي على هدر الوقت والجهد في ممرات ومكاتب القطاع العام.

البيروقراطية رغم مفهومها الذي يعتمد على الإدارة والتنظيم، إلا أنها أصبحت سيفًا مسلطاً على رقاب المواطنين حيث كرّست نظامًا إداريًا بطيئًا ومعزولًا عن التطور الهائل الذي يشهده العالم.

هل نتهم البيروقراطية

على الرغم من أن البيروقراطية اُستخدمت نظريًا للوصول إلى أقصى درجات التنظيم وضمان سير العمل بدقة، إلا أن الخلل البنيوي الإداري قد حولها إلى متاهة معقدة تتألف من سلسلة إجراءات وقيود  تؤثر بشكل مباشر على مستوى الخدمات العامة.

في ليبيا أدى التأخر الرقمي وغياب الإصلاحات الإدارية الشاملة إلى تحول أي إجراء إداري مهما كان بسيطا إلى عبء يثقل كاهل المواطن.

مقارنة للفهم

يستعد “جمال” وهو شخصية افتراضية قد يمثل أي مواطن ليبي للبدء في تجهيز إجراءات تجديد جواز السفر الخاص به، يعتبر جمال هذه المهمة بمثابة رحلة شاقة سمتها الأساسية الانتظار والركض لتجميع الأوراق المطلوبة لكي تكلل المسيرة في النهاية بحصوله على وثيقة السفر، قد يصطدم جمال بحزمة من العراقيل أو ربما يتم تأجيل الإجراء بسبب ضعف الإنترنت أو أي خلل غير متوقع.

على النقيض من ذلك، لا يكلف إصدار جواز السفر في دول أخرى سوى ساعتين من طلب الحصول عليه، كما كشف تصنيف أجراه موقع “غو أورو” في العام 2016، بأن دولة الإمارات العربية المتحدة من بين أسرع دول العالم في تسليم جواز السفر لمواطنيها، إذ لا تتجاوز مدة إصدار الوثيقة ساعتين اثنتين.

لن نتطرق إلى تنوع التعقيدات الإدارية للحصول على الوثائق الرسمية الأخرى مثل إصدار الأوراق الثبوتية أو استكمال المعاملات المصرفية، والتي يعود بطء إتمامها إلى اعتماد النظام الإداري الليبي على الأوراق والملفات دون استحداث قواعد بيانات رقمية.

التحول الرقمي في ليبيا مؤسسي أم مبادرات متفرقة

تتحدد مساحة النقاش في محاولة تفكيك العلاقة المعقدة التي تجمع القطاعات الحكومية في ليبيا، يساعدنا في فهم ذلك المهندس والمدّون التقني أمين صالح، عبر معرفة ماهية التحول الرقمي والذي يوظّف التكنولوجيا لتسهيل العمل وتقديم خدمات أفضل وأسرع للمواطنين، “هو ليس مجرد شراء أجهزة أو إطلاق تطبيقات، بل تغيير طريقة التفكير والإدارة”.

تتركز أهميته وفق ما يشرح أمين صالح في مساعدة الدولة على تقليل الفساد، وتحسين الكفاءة، وتوفير خدمات حديثة في الصحة، والتعليم، والمصارف وغيرها.

“هناك خطط واستراتيجيات قُدمت خلال السنوات الماضية، وبعضها جيد على الورق، لكن المشكلة دائماً في التنفيذ. لا تزال هناك فجوة في الحوكمة، التمويل، وتحديد المسؤوليات. التحول الرقمي يحتاج إلى رؤية وطنية موحدة، جهة مسؤولة بصلاحيات واضحة، وتشريعات تحكم البيانات والخدمات الإلكترونية. بدون هذه العناصر، ستبقى الاستراتيجيات حبيسة الأدراج”.

مستنفع المعاملات الورقية 

يؤكد المهندس أمين صالح، بأن ليبيا اتخدت خطوات أولية، ولكن ما زلنا بعيدين عن التحول الكامل. هناك تجارب ناجحة في القطاع المصرفي وبعض المؤسسات، لكن ما زالت خدمات الدولة تعتمد على الورق، ولا توجد هوية رقمية وطنية أو منصة حكومية موحدة. إذن، “التحول الرقمي في ليبيا موجود كفكرة وجهود متفرقة، لكنه لم يتحول بعد إلى واقع شامل”.

سلطة الموظف

يتبادل الليبيين النكات فيما يخص روتين العمل الإداري، فمن الطبيعي أن تبدأ ساعات الدوام وفقًا لمزاج الموظف أو يمكنه ببساطة توظّيف القوانين الإدارية لتعجيز المواطن، وقد تنتهي المتاعب بجملة “الموظف اللي عنده الإجراء اليوم ما جاش أرجع غدوة”.

وهنا يبرز تساؤل الملحّ، هل واكب الموظف الليبي في القطاع الحكومي التحول الرقمي مهنيًا أم أن بعض القطاعات الحكومية تقاوم التغيير ولا تُخضع موظفيها لبرامج تدريبية ترتقي بمستواهم الوظيفي.

يعتبر المدّون التقني أمين صالح الموظف العنصر الأهم في عملية التحول. التقنية وحدها لا تكفي إذا لم يكن الإنسان جاهزاً لها. لذلك يجب أن يحصل الموظف على التدريب اللازم، “من حقه أن يفهم دوره في هذا التغيير وأن يشعر بأن التقنية تساعده ولا تستبدله. نجاح التحول الرقمي يبدأ من الإنسان قبل الحاسوب”.

مركزية مُطلقة

تتجّلى أبرز مظاهر المركزية في محدودية صلاحيات الإدارات المحلية أو البلديات، ما يجعل معظم الخدمات الأساسية مثل إصدار الأوراق الرسمية أو تراخيص العمل تتم في العاصمة طرابلس أو عبر وزارات مركزية.

رغم بعض المحاولات، والتي تمثلت مثلًا في قانون الحكم المحلي والذي يهدف إلى منح البلديات صلاحيات أوسع، إلا أن تطبيقه كان رمزيا ولم يتحول إلى سياسة وطنية.

سألنا السيد محمد تنتوش وهو خبير في السياسة والإدارة العامة، عن جذور المشكلة الليبية والذي أرجع أسبابها إلى سلسلة من التحولات السياسية قد استحداثها النظام السابق والتي ألقت بظلالها على النظام الإداري الليبي، ما خلق صيغة إدارية مناطقية أضيق من التقسيمات الجغرافية “شرق وغرب وجنوب” بحيث قد تحصلت بعض المناطق على خدمات وحُرمت أخرى منها على الرغم من التقارب الجغرافي، ولم يستغل أيضا التغيير السياسي الذي حدث بعد عام 2011م لتحقيق إصلاحات إدارية جذرية ومُستدامة.

مقاومة التغيير

وفقًا للسيد محمد تنتوش، هناك مقاومة للتغيير مُترسخة في أغلب القطاعات الإدارية في ليبيا، حتى وإن نجحت بعض المبادرات فيمكن تصنيفها على أنها طفرات معزولة وليست تغييرات جذرية ومستدامة، ” بالعامية الإدارة في ليبيا ماشية بالبركة”.

أقرب مثال على ذلك عندما تم استحداث بعض المنظومات في إطار التحول الرقمي، حيث قد فشل بعضها فيما كان بعضها الأخر لا يراعي معايير هامة مثل الأمن السيبراني، يرى تنتوش بأن، “بيئة التحول الرقمي في ليبيا لا تزال غير مهيأة بدءً من تدريب الكفاءات ومرورًا بضرورة الوعي بأهمية التغيير ووصولاً إلى بلورة التشريعات والقوانين المنظمة لهذا التحول”.

بحسب تنتوش، لا تزال ليبيا بعيدة عن إطلاق مشروع وطني للتحول أو الحكومة الرشيدة، وكل ما هو موجود لا يتعدى كونه “منتج” لا يحقق متطلبات بناء مؤسسي رقمي مستدام.

 

“خُشّ البلاد بهلها”

قد يؤدي وجود أحد المعارف في دائرة حكومية ما إلى تسريع إتمام المعاملة، ما يدفع بمعظم الليبيين إلى إجراء بحث صغير عن “واسطة” من باب “خُشّ البلاد بهلها” حتى عندما يتعلق الأمر بإجراء إداري روتيني لضمان إتمامه بسلاسة ويسر.

هل من حلول ممكنة

يمكن اعتبار البيروقراطية في ليبيا ذات سياق خاص يخضع أيضاً وبشكل شمولي للواقع السياسي وانقسام الحكومات شرقًا وغربًا، كل ما ذكر يطال أدق تفاصيل الحياة اليومية للمواطن ويعرقل بالنتيجة عجلة التنمية والاستقرار.

تتركز الحلول الممكنة والعملية، بحسب ما يرى السيد حمزة الكميشي وهو مهتم بالشأن العام في إطلاق مشروع “البوابة الموحدة” لتكون هي المدخل لكل الخدمات. مع اعتماد مقترح “المفوض الرقمي” في كل دائرة حكومية، عبر موظف يكون دوره الأساسي هو مساعدة الزبائن في إنجاز المعاملات الرقمية. وهذا يسهل التحول.

بتفسيرات مبسطة، غياب التحول الرقمي أو الحكومة الإلكترونية سيحول ليبيا إلى بلد خارج الزمن ويحرم البلد من فرص استثمارية كبيرة.