مقالات

المصاهرة: عندما يتحول اختيار الزوج لقرار جماعي

على الرغم من تطور المجتمعات وحصول الأبناء على الاستقلالية في اختياراتهم الشخصية وتوجهاتهم المستقبلية، إلا أن العديد من الأسر مازالت تتدخل في قرارات أبنائها المصيرية، وأهمها اختيار شريك الحياة، وتضع معايير وشروط لهذا القرار قد تؤثر على حياتهم بشكل سلبي أو إيجابي، حسب ظروف كل شخص والعوامل المحيطة به.

لم يكن يدرك محمد الحداد، 33 عام أن قرار زواجه بزميلته في العمل والتي ارتبط بها عاطفيا قبل سنتين من الآن، سيُقابل برفض عائلي وأبوي كبيرين.

فوالد محمد تاجر معروف، تربطه علاقات عمل وصداقات عديدة مع شخصيات من طبقات المجتمع المختلفة، والتي يطمح أن يتقرب إليها أكثر من خلال النسب والمصاهرة، لتوسيع عمله وبسط نفوذه بشكل أقوى في السوق.

يقول محمد”أحببت زميلتي في العمل لأكثر من عامين، وأدركت جيدا خلال هذه الفترة أنها الفتاة الوحيدة القادرة على فهمي، ومشاركتي حياتي، فهي ذكيه ونشيطة وذات خلق عالٍ، كما أنها ممتازة في عملها وعلاقاتها مع الغير، وبعد فترة من ارتباطنا، قررنا أنا وهي الزواج، حتى تكتمل سعادتنا ونبني معا أسرة سعيدة ومستقرة، كنت متحمسا جدا لهذا القرار، وكنت على يقين أن عائلتي ستدعم قراري.

لكن حماس محمد انطفأ عندما رفض والده قرار ارتباطه بزميلته في العمل، واعتبره قرارا فرديا غير محسوب، من سأنه أن يدمر العائلة ويفككها.

ترى الاخصائية التربوية والاجتماعية سهام القطراني، أن قرار الزواج ليس قرارا فرديا مستقلا، انما هو قرار تتداخل فيه عدة عوامل، ويؤثر بشكل غير مباشر على العائلة، معتبرة أن هذا الميثاق له أبعاد عائلية واجتماعية، ويتطلب تفهماً وتقديراً لمشاعر جميع الأطراف، وليس مجرد توافق شخصي بين شخصين.

وبينت أن الأبن او الأبنة يظلان في صراع دائم بشأن اتخاذ قرار الزواج، لتشتتهم بين سعادتهم وبين رضا والديهم، ولكن يظل تدخل الأهل في هذا القرار بشكل مباشر أو غير مباشر أمر غير مقبول، لما له من تداعيات على الأبناء في المدى القصير والبعيد.

رغم هذا وجدت حليمة اللافي 44 عام، سعادتها في الزوج الذي اختارته أسرتها لها، بعد رفضهم الارتباط بابن الجيران الذي يكبرها بخمس سنوات، وقالت: “انهرت كثيرا وتأثرت وشعرت وقتها أن العالم انتهى عندما رفضت أسرتي ابن الجيران، الذي تقدم لخطبتي بعد علاقة حب دامت لسنوات، لكني اليوم أشكر الله على هذا الرفض وعلى تدخلهم في حياتي ذلك الوقت”.

وأضافت:” كنت صغيرة في السن، ومتسرعة، ولم أكن أحسب الأمور كا تحسبها أسرتي، فبعد فترة من رفضهم لذلك العريس الذي كنت أريده بشدة، اكتشفت أنه يتعاطى الخمور، ولايملك أية صنعة أو حرفة للعمل، بمعنى آخر ليس له مستقبل أو مسؤولية تجاه تكوين الأسرة وتحمل التزاماتها، أما زوجي الحالي الذي تزوجته بشكل تقليدي عن طريق أمي وخالاتي، فهو شخصية طيبة وحنونة، يعمل على توفير كامل احتياجاتي أنا وأبنائنا الثلاثة، ويسعى دائما الى تأسيس منزل عائلي كله خير”.

وتحدثت الاخصائية التربوية والاجتماعية سهام حول تدخل الأسرة في قرار زواج أبنائها وبناتها واعتبرت أن الآباء عادة يتدخلون في زواج أولادهم بدافع النصح والارشاد والتوعية والحرص على مستقبلهم، فهم عادة تنقصهم الخبرة لاختيار الشريك المناسب لهم، فاختياراتهم عادة بدافع العاطفة والمشاعر، ولكن دون إجبار أو إكراه، إلا في حالات ضيقة جدا”.

وأضافت أنه رغم حصول أغلب الشباب والفتيات على استقلاليتهم الخاصة داخل الأسرة، إلا أن العادات والتقاليد والأعراف قد تفرض على الأبناء نوعا معينا من الزيجات.

حيث تصر أسر كثيرة على زواج الأقارب خاصة في الأرياف والبيئة القبلية، رغم التداعيات الصحية والإجتماعية الخطيرة لهذا الزواج.

ومن هنا تتضح لنا معضلة اختيار شريك الحياة في المجتمعات الليبية المعاصرة كـصراع بين الجيلين والهوية الفردية مقابل العائلية. ففي حين يمثل قرار محمد الحداد وحبيبته، رمزًا لحق الجيل الجديد في الاستقلالية العاطفية وتأسيس حياة قائمة على التوافق الشخصي.

تظل قصص مثل قصة حليمة اللافي تذكرنا بأن خبرة الأهل، المدفوعة بالحرص على الاستقرار المادي والاجتماعي، قد تكون عامل حماية إيجابي في بعض الأحيان، خاصة في مراحل الشباب المبكرة.

إن تدخل الأهل في قرار الزواج ليس مجرد مسألة تقليدية عابرة، بل هو قرار معقد تتشابك فيه المصالح الاقتصادية، النفوذ الاجتماعي (كما في حالة والد محمد)، والاعتبارات القبلية والأعراف السائدة، بالإضافة إلى المخاوف الحقيقية على مستقبل الأبناء.

وكما أوضحت الأخصائية سهام القطراني، يكمن التحدي في إيجاد نقطة التوازن الدقيقة، فبينما يُعد النصح والإرشاد ضروريًا لسد فجوة الخبرة لدى الأبناء، يصبح الإجبار أو الإكراه تدخلاً غير مقبول يحمل تداعيات سلبية على المدى الطويل، ويهدد السعادة والاستقرار الأسري.

لذا، فإن استمرار هذا النقاش يتطلب من الأسر الليبية تبني منهج الحوار والتفاهم المتبادل، يقرّ باستقلالية الأبناء في الاختيار، ويقدّم في الوقت ذاته الخبرة العائلية كدعم لا كشرط.

فالميثاق الزوجي، في نهاية المطاف، يجب أن يكون شراكة بين شخصين واعيين، مدعومين برضا العائلة، لا مرهونًا بمصالحها أو تقاليدها الجامدة. إن السعادة والاستقرار يتحققان عندما يتخذ الأبناء خياراتهم المصيرية بوعي كامل، مستفيدين من خبرة ذويهم، دون أن يكونوا مجبرين على التضحية بسعادتهم الشخصية من أجل إرضاء الآخرين.