مقالات

كيف يحوّل التنمر المراهقة إلى ندبة عميقة؟

المراهقة فترة حساسة يبدأ فيها الشاب أو الفتاة بالبحث عن هويتهم ومكانتهم بين الآخرين. إلا أنها قد تتحول لجرح صامت بسبب التنمر اللفظي، كلمة ساخرة، نظرة استهزاء على الشكل أو اللهجة أو حتى الظروف الاجتماعية. كلها تفاصيل قد تبدو بسيطة إلا أنها تترك أثراً عميقاً في نفس المراهق.

ربما تتذكر نفسك أو تتذكر صديقاً بالمرحلة الإعدادية أو الثانوية أجتمع حوله الطلاب ومارسوا عليه التنمر فكان الأمر مضحكاً في حينه بالنسبة لهم، ولكنه في حياة ذلك الطالب كان كابوساً مؤلماً استمر عالقاً في ذاكرته ومرافقاً له لسنوات طويلة ربما.

لهجة مضطربة.. وتنمر لا ينتهي

محمد العوامي (25 عامًا) شاب واجه التنمر في فترة النضج “تعرضت للسخرية والتنمر بسبب وزني الزائد، وكذلك كون والدتي مصرية، فكانوا دائماً يشككون في لهجتي المضطربة وكنت أبرر قائلاً: “أمي مصرية وباتي ليبي”. في ذلك الوقت لم أكن أدرك ماذا يعني أن أكون ليبياً أو مصرياً، ولليوم لا أعرف.”

ويضيف محمد بتأثر موقفاً ترك أثراً عميقاً بداخله: “من المواقف العالقة بذاكرتي لليوم حين كنت أخرج من المدرسة، والطلاب ينتظرونني خارج أسوارها بهتاف ساخر وقذر يقول: “يا وله يا مصري، أنت بتعمل إيه بالفول المدمس والشطة عليه” كانت هذه الترديدات كفيلة بجعلي أشعر بأنني أقل منهم.”

يتذكر محمد كيف كان للتنمر تأثيرا مباشرا على حياته: “ما مررت به جعلني أترك المدرسة وتعطلت لخمس سنوات، فعملت في استديو بيروت للتصوير. ثم قررت أن أكمل دراستي بالمنزل، كنت متفوقاً جداً رغم تأخري عن أبناء جيلي. تحديت نفسي وأكملت، وقبل أيام قدمت أوراقي للجامعة وقُبلت في المجال الذي كان شغفي منذ الصغر، وهو الإعلام.”

حذاء مُمزق في مواجهة التنمر

وإن كانت اللهجة في قصة محمد سبباً للتنمر فمع نجوى (51 عامًا) كان الأمر مختلفاً ومرتبطاً بظروفهاً الإجتماعية وفقرها لتبدأ حديثها عن تجربتها: “لم يكن التنمر الذي تعرضت له بسبب شكلي فقد كنت طفلة جميلة، لكنه كان بسبب الفقر الذي كانت تعيشه أسرتي، والذي جعلني محط سخرية من التلميذات وبعض معلماتي بالمدرسة. أتذكر كيف كانت بعض المعلمات يضعنني بالمقاعد الأخيرة ويترددن في إبراز تفوقي وترتيبي الأول أمام أي موجه أو زائر للفصل لأن ملابسي البسيطة كانت تثير فيهن الخجل “.

تروي نجوى بتأثر قصة عاشتها ومازلت عالقة بذاكرتها: “في المراهقة لم يكن لدي صديقات، فالفتيات كن يبتعدن عني لأنني لا أستطيع مجاراتهن في شراء الملابس والأحذية. كنت أرتدي حذاء قديماً أو حذاء أختي الكبرى، ومع أول سقوط للمطر كان يتمزق، فتبدأ الضحكات والتعليقات الجارحة “كندرتك تضحك”. كنت أبكي بصمت كوني طفلة خجولة فيما تتولى شقيقتي الصغرى الدفاع عني وحمايتي.”

بعد مرور سنوات على تلك التجربة القاسية، تقول نجوى والابتسامة ترتسم على وجهها: ” أكملت تعليمي وأصبحت معلمة ناجحة، محاطة بالاحترام والتقدير، وأعيش حياة مستقرة، وما مررت به جعلني أكثر حرصاً على أن أعيش حياتي كما أحب، بعزة نفس وكرامة وعاهدت نفسي أن تكون كل أحذيتي ‘ماركة’ ومن الجلد الطبيعي وألا أسمح لحذائي أن يكون سبباً للضحك علي مجدداً.”

من السخرية إلى الجرح

قصة كل من محمد ونجوى تتوافق مع الدراسات فقد أظهرت دراسة لمجلة BMC Psychology (2020) على عينة من 1790 شاباً أن من تعرضوا للتنمر بين سن 15 و18 كانوا أكثر عرضة للإصابة بأعراض الاكتئاب عند بلوغ 28 عاماً مقارنة بمن لم يتعرضوا. كما أن التعرض المتكرر للتنمر يزيد احتمال ظهور هذه الأعراض، حتى بعد ضبط عوامل مثل الخلفية الاجتماعية والجنس وعدد الأصدقاء.

تؤكد تقارير اليونيسف أن الأطفال والمراهقين الذين يتعرضون للتنمر غالباً ما يعانون مشاكل نفسية مثل الاكتئاب والقلق، وقد يمتد تأثيره إلى الأداء الدراسي والتركيز، وأحياناً يصل إلى العزلة الاجتماعية أو الانتحار في أسوأ الحالات.

حدود واضحة

توضح الأخصائية النفسية شيماء تربح حول العلاقة ما بين مرحلة البلوغ والتنمر: “سن المراهقة حساس وتأثيراته تستمر معنا لاحقًا. التنمر في هذه المرحلة خطير فهو يزرع بذرة خوف تكبر شيئاً فشيئًا وتضعف ثقة المراهق بنفسه، مما يؤثر على حياته وعمله ويجعله عاجزاً عن المضي قدماً. وقد تصل النتائج لمراحل أشد خطورة تشمل الاكتئاب، القلق، العزلة الاجتماعية، وأمراض جسدية مثل مشاكل القلب والسكري”.

وتضيف شيماء عما يمكن القيام به التصدي للتنمر: “يجب أن يعمل الشخص على تقوية ثقته بنفسه، وفهم أن المشكلة ليست به بل في الشخص المُتنمر الذي يعكس مشاكله عليه. كما يجب أن يحيط نفسه بأشخاص يحبونه ويستطيعون دعمه، وأن يتعلم وضع حدود واضحة. عليه أيضاً أن يرى المشكلة من زاوية طرف ثالث بعيداً عن كونه الضحية فيحدد لها تعريفاً واضحاً مثل: ‘ما أتعرض له حالياً هو تنمر من فلان’.”

كسر دائرة العنف

التنمر يترك ندوباً نفسية طويلة الأمد، ولتلتئم الجراح وتتحول إلى قوة وشجاعة، يجب أن يبرز دور الأسرة في الاحتواء، ودور المدرسة في التربية قبل التعليم، والمجتمع في كسر ثقافة الاستهزاء. مواجهة التنمر تبدأ بالوعي، والتأكيد للأطفال والمراهقين أن الاختلاف بينهم ليس عيباً يستحق السخرية، بل هو ما يصنع تنوعهم وقوتهم.