تشهد الجامعات الليبية منذ نحو ست سنوات إضرابات لأعضاء هيئة التدريس، في خطوة تنذر بتداعيات لا يمكن تجاهلها على مستقبل الشباب وتقدم البلاد، في زمن تحديات اقتصادية واجتماعية متزايدة،
إذ تمثل هذه الإضرابات تحدياً لقطاع التعليم الذي يعد عماد التنمية والاستقرار، بعد أن تحولت الأصوات التعليمية الهادئة إلى صرخات احتجاج، تجاوزت حدود الفصول الدراسية، وباتت تلقي بظلالها اليوم على نحو ربع مليون طالب ممن يرتادون المؤسسات التعليمية العليا في البلاد بحسب آخر إحصائيات المنظومة الوحدة للجامعات الليبية لعام 2021.
بداية القصة كانت عام 2019 إبان فترة ترأس فاير السراج لحكومة الوفاق الوطني آنذاك، عندما طالب أعضاء هيئة التدريس بالمؤسسات التعليمية العليا “الجامعات والمعاهد” والمقدر عددهم بنحو 25 ألفاً يتوزعون على نحو 28 جامعة حكومية، بزيادة مرتباتهم أسوة بباقي قطاعات الدولة.
حيث إن مرتبات أعضاء تدريس الجامعات لم تشملها الزيادات التي منحت لمعظم القطاعات، وظلت خاضعة للقرار رقم 501 لعام 2010 الصادر عن اللجنة الشعبية العامة “رئاسة الوزراء” بشأن إصدار لائحة تنظيم العالي خلال فترة النظام السابق.
ولا تواكب هذه المرتبات متطلبات العيش ولا تتناسب مع القيمة الشرائية للدينار الليبي بعد أن شهدت انخفاضا ملحوظا منذ عام 2013 بحسب المحتجين من كوادر التدريس بالجامعات، كما طالب المحتجون بحق إيفاد المعيدين وحملة الماجستير للخارج لاستكمال دراستهم العليا، بعد توقفها منذ عام 2015،
إضافة إلى منح إجازة التفرغ العلمي للأساتذة والمعيدين، وحق حضور المؤتمرات العملية بالخارج، والإفراج عن حقوق أساتذة الجامعات من المستحقات المالية الموقوفة والمتأخّرة.
إصلاحات غير كافية
لاقى الاحتجاج استجابة من حكومة الوفاق الوطني بإصدار قانون رقم 4 لسنة 2020، والذي حمل في طياته مجموعة من الإصلاحات التي تستجيب بشكل إلى مطالب أعضاء هيئة التدريس والبحث العلمي في الجامعات الليبية.
من بين هذه الإصلاحات رفع مقابل الساعات الدراسية، وحق إيفاد المعيدين وحملة الماجستير للدراسة في الخارج من خلال إعادة فتح برنامج الإيفاد الذي توقف منذ عام 2015، ومنح إجازة التفرغ العلمي، وحق حضور المؤتمرات العلمية بالخارج، إضافة إلى الإفراج عن المستحقات المالية المتأخرة لأساتذة الجامعات.
وبهذه الإصلاحات، توقع الشارع أن يسهم قانون الجامعات الجديد في تحفيز الأعضاء في هيئة التدريس ودعم نمو البنية التحتية التعليمية والبحثية في ليبيا، مما يعزز مكانة البلاد في المشهد التعليمي والعلمي العالمي، وظن الجميع أن الأمر قد انتهى بذلك.
إلا أن مجريات الأحداث وما طرأ من تطورات أثبتت عكس ذلك إذ لازال شبح الإضرابات يلوح في الأفق بعد تعثر تطبيق القانون على أرض الواقع. وفي حديث لـ “هنا ليبيا” قال نقيب أعضاء هيئة التدريس بجامعة عمر المختار طارق اكريم أن وضعهم الحالي كارثي، مؤكدا أن مهنة التدريس في الجامعات الليبية باتت “مهنة الآلام بعد أن كانت مهنة الأحلام”.
وأكد النقيب عزمهم المضي قدما في الإضرابات وكشف عن نيته على الدفع قدما لتعليق العمل في السنة الدراسية المقبلة وإعلانها “سنة بيضاء”، مشددا على أن الحكومات المتعاقبة وتعاملهم مع هذا الملف أثبت لهم بما لا يدع مجالا للشك بأن لغة الحوار لن تجدي نفعا ولامناص من استخدام أدوات الضغط خصوصا بعد أن تعذر على النائب العام والذي تدخل لفض الاعتصام الأخير لأعضاء هيئة التدريس تنفيذ وعوده بمنحهم كافة الحقوق حسب قوله.
كما أشار نقيب أعضاء هيئة التدريس في جامعة عمر المختار إلى أن القوانين التي صدرت لم تطبق بشكل كامل إذ أن الزيادة التي أقرها قرار رقم 126 لسنة 2021 م، والتي بلغت 70% من الراتب الأساسي إضافة إلى زيادة مقابل الساعات الدراسية نُفذ الجزء الأول منها فقط في حين لم تطبق زيادة قيمة الساعات الدراسية في جميع جامعات ليبيا، باستثناء جامعة السيد محمد بن علي السنوسي الإسلامية.
كما أشار إلى أن “انتقائية” بعض إدارات الجامعات الليبية في تطبيق القانون رقم 4 من خلال الجزاءات الصارمة دون إرفاقها بالحقوق التي يكفلها ذات القانون لأعضاء هيئة التدريس والعاملين باتت تشكل عقبة جديدة معقبا (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ).
إضافة إلى ما وصفها بـ “ضبابية” القوانين الضابطة للعمل داخل أسوار الجامعات في ظل القوانين والتعديلات الكثيرة التي طرأت عليها ما جعلهم – كأعضاء هيئة تدريس – في حيرة من أمرهم وجعلهم فريسة لتوظيف القانون وفقا للأهواء بحسب اكريم، الذي أكد أن الإيفاد لازال متوقفا وبأن الإجازة العلمية لم تفعل وبأن القرار برمته لم يطبق من الحقوق التي نص عليها في طياته سوى زيادة المرتب الأساسي فقط.
كما تحدث اكريم عن المعيدين وما يلاقونه من “إجحاف” في قيمة المرتب الأساسي والتي لا تتجاوز 700 دينار حسب قوله، عدا عن حرمانهم من الإيفاد، في الوقت الذي يستوجب فيه على الجامعة أن تستثمر في هذه الطاقات الشابة والتي من المفترض أن تتصدر قاعات التدريس لكون هذه الوظيفة لا تمنح إلا للمتفوقين من الخريجين.
قانونية الاضراب
وفي ظل النقاشات الجارية حول الإضرابات في الجامعات الليبية، يبرز أمر آخر مهم يتعلق بالتشريعات القانونية المتعلقة بالإضرابات في البلاد، فقد أشار المستشار القانوني فرج البرعصي في تصريحات لــ “هنا ليبيا” إلى أن الإضراب مجرم قانوناً وفقاً للتشريعات القائمة، وبموجب القوانين الليبية، يُعد الإضراب غير قانوني ويعرض المشاركون فيه للمساءلة القانونية لارتكاب جريمة إدارية تتمثل في قفل عام وتعطيله عن أداء مهامه.
كما أنه قد يشكل جريمة جنائية يحال الضالعون فيها للنيابة العامة والقضاء الجنائي، وأضاف البرعصي أن حق الإضراب والاحتجاج مضمن في مشروع مسودة الدستور الذي وضعته الهيئة التأسيسية إلا أنه لم يدخل حيز التنفيذ لعدم التصويت عليه واعتماده ما يجعل القوانين السابقة والتي تجرم الإضرابات سارية أمام القضاء الليبي، ويضع هذا الموقف القانوني أساتذة الجامعات في موقف حرج، فكيف يتسنى لهم التعبير عن مطالبهم وضروراتهم المهنية دون أن يتعرضوا لعواقب قانونية تهدد استقرارهم المهني والشخصي.
عضو هيئة التدريس بالجامعات الليبية الدكتورة زكية 52 عاماً ترى أن هذه الإضرابات غير مبررة، وفي حديثها لــ “هنا ليبيا” قالت إنها تنظر لهذه الاحتجاجات من زاويتن، كأم لأحد الطلاب المتضررين من جهة، وكعضو هيئة تدريس من جهة أخرى، مشيرة إلى تعطل ابنها عن الدراسة وتعثر تحصيله العلمي.
فيما وجهت انتقادات لاذعة وغياب إشراك أعضاء هيئة التدريس في القرارات التي تمس عملهم ومقرراتهم التي يدرسونها بشكل مباشر قبل إصدارها واعتمادها من الإدارات العليا حسب قولها.
وترى زكية بأن الحقوق يجب أن تؤخذ عن طريق القانون والقضاء وتضيف “الاعتصام أصبح ضرره أكثر من فائدته، بالأخص على الطالب وذلك من خلال ضياع العام الجامعي” مضيفة أنه وحتى عند العودة الى الدراسة يتم تقليص المنهج، بما لا يخدم مصلحة الطالب وتكون نتائجه تعثره في السنوات المتقدمة، حيث تلتمس الجامعات العذر للطالب بسبب الاعتصام ما يجعل من مخرجات الجامعات دون المستوى.
وعلى الجانب الآخر يرى عضو هيئة التدريس بالجامعات الليبية الدكتور إبراهيم 40 عاما أن الاعتصام باتت ضرورة لا مفر منها بعد أن بادرت الحكومة بزيادة المرتبات لعدد كبير من القطاعات وقامت بالتركيز على الشرائح المؤثرة “كعدد” وذلك لعمل دعاية انتخابية مبكرة، و أهملت بل و حاربت التعليم العالي و بالأخص أعضاء هيأة التدريس و المعيدين حسب وجهة نظره، مؤكدا أن هذا المسار لم يتخذه العاملون بالجامعات الليبية إلا بعد استنفاد جميع المسارات الأخرى كرفع الدعاوى القضائية والتقدم بالشكاوي للجهات الرقابية والتي يرى بأنها لم يحرك أحد ساكناً.
كما يضيف إبراهيم “الحكومة الحالية قامت بإيقاف عجلة الايفاد للخارج وقد وصل بهم الامر إلى الضغط على المعيدين لتحويلهم موظفين وهم بذلك يقومون – من حيث يعلمون أو لا يعلمون – بإفراغ الجامعات من الكوادر الوطنية. في حين أن قرارات الإيفاد تقتصر على أقارب المسؤولين والمتنفذين هم يقومون بإيفاد أقاربهم للدراسة بالخارج”.
وواصل إبراهيم اتهاماته للحكومة حيث قال ” قامت الحكومة بخطف وابتزاز نقيب أعضاء هيئة التدريس على مستوى ليبيا ونقباء أعضاء هيأة التدريس بالجامعات لإسكات صوت الحق، و لكنها لم و لن تتوانى عن صرف الملايين على الحفلات و المغامرات الطائشة” حسب وصفه.
مشيرا إلى أن الحكومات ومنذ بدء المطالبات “لا ترد على مطالب أعضاء هيئة التدريس الا بعد تعليق الدراسة في الجامعات ولنا في الاعتصامين السابقين خير دليل، وبعد تعليق الدراسة لمرتين سابقاً قامت الحكومة بالتفاوض مع أعضاء هيئة التدريس و وعدت مرتين و أخلفت بوعدها، على الرغم من أن الجهات التشريعية قامت باعتماد قانون مرتبات أعضاء هيأة التدريس و نشرته في الجريدة الرسمية فيما تقاعست الحكومة عن التنفيذ”.
من جهتها تقول الدكتورة ابتسام 46 عاما بأنها تؤيد الإضراب وذلك لكوننا نعيش في دولة لا تنال فيها حقك إلا “بلي الذراع” حسب قولها، مشيرة إلى أن أعضاء هيئة التدريس والمعيدون طالهم ظلم كبير، بعد أن ضاعت سنوات عمرهم في انتظار إيفاد يناله من لا يستحقه، بالواسطة والمحسوبية حسب قولها.
مضيفة أنهم لم يكافؤوا على سنوات عمرهم التي قضوها في الدراسة فرواتبهم لا تختلف كثيرا عن سواهم بالإضافة إلى أنهم لايملكون مكاتب يقضون فيها فترة مكوثهم في الجامعة ولا مواقف لسياراتهم مؤكدة ان البيئة التعليمية برمتها في الجامعات الليبية غير مناسبة.
إذا كانت الجامعات هي الشريان الحي للمعرفة في أي مجتمع، فإن إضراب أعضاء هيئة التدريس في ليبيا يعكس ليس فقط غياب الحلول الفورية، بل ويكشف ضرورة توفير البيئات المناسبة داخل الجامعات لتحفيز ودعم أساتذتها، لتخريج طلاب واعين ومثقفين، مستعدين لمواجهة تحديات العالم الحديث، ويصف التخطيط الاستراتيجي الاستثمار في التعليم بالاستثمار في مستقبل مشرق.