Uncategorizedمقالات

وجهة نظر صانع محتوى “هويتنا عبر السوشيال ميديا”

في عصر تتسارع فيه وسائل التواصل الاجتماعي وتزداد تأثيراتها على حياتنا اليومية، أصبح الاهتمام بالمظاهر والظهور بشكل مثالي عبر هذه المنصات ظاهرة اجتماعية بارزة. يعكس هذا السلوك تحولات عميقة في القيم، حيث صار المظهر الخارجي وعدد المتابعين والإعجابات معيارا لقياس النجاح والقبول.

في البداية، يبدأ كثير من الأشخاص رحلتهم على هذه المنصات كصانعي محتوى بهدف الإفادة والتواصل، لكن سرعان ما يصطدمون بصراع بين الرغبة لتقديم محتوى هادف وبين الانجذاب لهوس المظاهر والبراندات. وهذا الصراع قد يتحول إلى ضغط نفسي يعكس تحديات أعمق في مرحلة البحث عن الذات والقبول الاجتماعي.

لمن نصنع المحتوى؟ بين الحاجة للقبول والرغبة بالتأثير

تجربة عاشتها صانعة مُحتوى “طلبت عدم ذكر اسمها” حيث تقول: “في البداية، كنت أرى أن المظاهر هي كل شيء، كنت أحرص على نشر صور لمنتجات فاخرة، وعشاءات راقية، وأحياناً أستعير حقائب غالية فقط من أجل الظهور بمظهر لافت أمام المتابعين، هذا الأسلوب جذب انتباه بعض المتاجر التي بدأت تعرض علي منتجات بالمجان مقابل الترويج، كان الأمر أشبه بالحلم في السوشيال ميديا، لكنه في الواقع لم يكن كذلك”

تكمل صانعة المحتوى حديثها ” مع مرور الوقت، بدأت أشعر أن هذا الأسلوب من الحياة مرهق جداً، ولم أعد أجد نفسي فيه، صرت أحس أنني أقدم صورة لا تشبهني، وأنني أعيش تحت ضغط التجمل والمقارنة المستمرة، وهنا بدأت أبتعد تدريجياً عن المظاهر وركزت أكثر على تقديم محتوى واقعي فصرت أبحث عن الجوانب التوعوية التي يمكن أن تترك أثراً حقيقياً في الناس، وبدأت أشارك تجاربي بشكل صادق، حتى لو لم تكن “مبهرة” كما في السابق”.

وعن صناعة المُحتوى بعيداً عن الماديات والمظاهر تقول “صناعة المحتوى فيها جانب مفيد ومؤثر جدًا، لكن المشكلة أننا نركز كثيراً على الجوانب السطحية لأنها ببساطة ما يثير التفاعل والناس غالباً يدعمون ما يلمع أمامهم، وهذا يجعل المحتوى العميق والنافع يأخذ وقتاً أطول بكثير حتى يصل ويقدر، أنا لا ألوم المتابعين تماماً لكنني أتمنى أن يتغير هذا الواقع، وأن يصبح للمحتوى الهادف فرصة أكبر للظهور والتأثير”.

حين تصبح الأرقام مرآة مزيفة للذات

كثير من الناس انجذبوا لعالم السوشيال ميديا دون أن يدركوا ما يخفيه من ضغوطات ومقارنات ومنهم أيوب (29 عاماً) حيث بدأ حديثه عن تجربته قائلاً: ” في بدايتي كان الأمر مجرد هواية، أمر أحببت تجربته، ولكن شيئاً فشيئاً وجدت نفسي في عالم كله قائم على الأرقام والمتابعين وليس لمن يقدم محتوى فعلاً مفيد أو صادق.”

يُكمل أيوب حديثه عن صناعة المُحتوى “لاحظت أن التقدير في هذا العالم لا يُمنح إلا بناء على عدد المتابعين حتى صناع المحتوى أنفسهم يتعاملون معك بناء على ما إذا كنت تمتلك جمهوراً كبيراً أم لا لتبادل المصالح وكأن القيمة كلها أصبحت في الأرقام. “اشتريت متابعين لأشعر بالتقدير رغم معرفتي أن العدد ليس حقيقيًا”.  أتذكر جيداً كيف كنت أسمع تعليقات مثل: “ما شاء الله، عندك عدد كبير” وكان كل ما في الأمر خدعة أنا من صنعتها!”.

يبتسم أيوب وهو يتذكر موقفاً مر به ” كنا مجموعة من الشباب نحضر ورشة عمل بأحد المراكز التعليمية، وكانت بجانبي إحدى صانعات المحتوى. تفاجأت كيف تحوّل تركيز الجهة المنظمة بالكامل نحوها، وكأنها المثل الأعلى، فقط لأنها تملك عدداً ضخماً من المتابعين، أصبحت هي محور الاهتمام لمجرد احتمال أن تذكرهم في منشور أو ستوري، شعرت وقتها أن كثيرين بالقاعة أحسو بعدم التقدير، وكأن قيمتهم أقل لأنهم لا يملكون نفس الرقم. وهذا بنظري أحد أوجه الخطر في عالم السوشيال ميديا “التقييم على أساس الرقم، وليس القيمة الحقيقية للفرد أو ما يقدمه”.

تأثير السوشيال ميديا على الهوية الاجتماعية

تشير الدراسات السوسيولوجية الحديثة إلى أن السوشيال ميديا لعبت دوراً محورياً في تعزيز ثقافة الاستهلاك الظاهر، حيث تقوم المنصات الرقمية بعرض أنماط حياة فاخرة ومثالية تشكل معياراً جديداً لقياس النجاح الاجتماعي، ما يؤدي إلى تعميق الفجوة بين الواقع والصورة التي يعرضها الأفراد عن أنفسهم.

وتؤكد هذا دراسة نشرتها مجلة “الإعلام الجديد والمجتمع” تحت عنوان ” الأداءات الرقمية: بناء الهوية في فضاءات وسائل التواصل الاجتماعي”، كيف يتحول المستخدم إلى “منتج” يعرض صورة مدروسة بعناية من خلال ما يُعرف بـ”تسليع الذات”.

حيث يبني الفرد هويته الرقمية عبر تقديم نسخة مثالية ومتقنة من ذاته لجذب الانتباه والتفاعل، هذا الأداء الاجتماعي الرقمي يخلق ضغطاً مستمراً للحفاظ على هذه الصورة المثالية، مما قد يؤدي إلى فجوة بين الهوية الحقيقية للفرد والهوية المعروضة على المنصات الرقمية.

تفكيك قيم المجتمع المعاصر

 من جهتها تقول الدكتورة عائشة قيني، أستاذة علم الاجتماع “القيم المتعلقة بالمظاهر تتشكل عبر مؤثرات متداخلة تبدأ بالأسرة والثقافة المجتمعية التي تربط بين المظهر والمكانة، مرورًا بوسائل الإعلام والمدرسة والأقران. فإذا نشأ الفرد في بيئة تمجّد المظاهر والماديات، يتعلم أن قيمته تقاس بما يمتلكه أو كيف يبدو أمام الآخرين، ما يؤدي إلى تزايد ظاهرة “الاغتراب القيمي” حيث تصبح القيم السطحية مقياسًا للذات”.

وعن السوشيال ميديا أضافت القيني ” وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورًا مركزيًا في ترسيخ هذه القيم، عبر إعادة تعريف مفاهيم مثل الجمال والنجاح والمكانة بمعايير رقمية تعتمد على الشكل وعدد المتابعين. وتبرز ظواهر مثل “تسليع الذات” و”ثقافة التمثيل”، حيث يعرض الأفراد نسخًا مثالية من أنفسهم لجذب الانتباه، مما يؤدي إلى ثقافة مقارنة دائمة، خاصة بين الشباب، وتهديد لتكوين هوية مستقرة قائمة على الجوهر لا الانطباع”.

اختتمت الدكتورة حديثها حول الموضوع ” الهوس بالمظاهر تحوّل من ظاهرة طبيعية إلى مشكلة اجتماعية بسبب تأثيراته السلبية على الصحة النفسية، مثل القلق والاكتئاب، بالإضافة إلى تعميق الفجوة الطبقية وتراجع الانتماء والهوية الفردية. فهنا وجب إعادة بناء المنظومة الإعلامية والقيمية بالتركيز على الصدق والعمل والمعنى بدلاً من تمجيد الصورة والمظهر، مؤكدة أن السوشيال ميديا تفرض معايير شكلية للقبول الاجتماعي تمارس نوعًا من “السلطة القهرية” على الأفراد”.

الوعي في الفضاء الرقمي

تظل السوشيال ميديا قوة مؤثرة لا يمكن تجاهلها في تشكيل قيم الأفراد وهويتهم، لكنها في الوقت نفسه مرآة تعكس التحديات الاجتماعية والنفسية التي تواجهها المجتمعات المعاصرة. لتحقيق توازن صحي، يجب أن نعيد التفكير في طريقة تعاملنا مع هذه المنصات، ونؤكد على أهمية الجوهر والصدق بدلاً من المظاهر الزائفة. فقط حينها نستطيع بناء فضاء رقمي يثري الإنسان ويعزز الانتماء الحقيقي، بعيداً عن الصورة المصطنعة التي تخفي خلفها الكثير من الألم والتوتر.