كَتَبَ عالم الاجتماع المجري “كارل مانهايم” عام 1923م مقالاً مطوّلاً بعنوان “مشكلة الأجيال (The Problem of Generations)” تحوّل فيما بعد لنظرية شهيرة عُرفت بـ”نظرية الأجيال أو علم اجتماع الأجيال“. يُقسّم “مانهايم” الأجيال وِفقاً للأحداث والظواهر الاجتماعية المصاحبة لمواليد تلك الفترة، فيرى بدوره أنّ تلك الأحداث، بلورتْ سِمات تلك الأجيال، وساهمتْ في تكوين شخصياتهم.
سارَ عُلماء الاجتماع المعاصرون على هذا النهج وتتبّعوا تطوّر الأجيال، ووفق هذا التصنيف، يمكن تقسيم الأجيال كالتالي:
- جيل الألفيّة أو جيل Y: وهو جيلُ الأفراد الذين ولدوا في الفترة من بداية الثمانينات إلى بداية التسعينات، وربما لمنتصف التسعينات.
- جيل Z: وهو جيل مواليد منتصف التسعينات إلى منتصف الألفية الثالثة، أي عام 2005 تقريبا.
في ليبيا، يُمكننا فهم الأجيال الليبيّة، من خلال هذه التصنيفات، ولكنّي أرى أنّه من المجحف، نقل هذا التصنيف بحذافيره، دون مراعاة الخصوصيات الليبيّة، والتغيّرات الكُبرى في بُنيته الاجتماعية. فمثلا: أرى وجود جيل ثالثٍ، بين جيل Y (الذي أنتمي إليه) وجيل Z، وهمّ مواليد بداية التسعينات إلى منتصفها، فقد شهدت الدولة والمجتمع، تغيّراتٍ متسارعة، أثّرت فيهم، هم بالذات.
جيل الثمانينات: على صهوة الألم
فترة الثمانينات في ليبيا، كانت فترة صعبة على كافة الأصعدة، وخاصّة اقتصاديّا. ونتيجة للصِدامات المسلّحة التي حدثت داخل البلاد – كالحملات الأمنيّة – أو خارجها – مثل الدخول في حرب مباشرة ضد تشاد، مرورا بهبوط أسعار النفط. كل تلك الأحداث ساهمتْ بشكلٍ مباشر في حشد كلّ الإمكانيات للمعركة، وإطلاق مرحلةٍ من التقشّف، سبّبت في انحسار الكثير من البضائع وأشكال الرفاهية، والاكتفاء بالضروريّ من السلع الأساسية والأدوية.
فتح هذا الجيل عينيه، في ظلّ هذه الأجواء؛ اقتصادُ في كل شيء وتقوقعٌ نحو الداخل، مع تبني شعاراتٍ قوميّة ،عابرة للهوية الوطنية، طفولةٌ تعتمد على البساطة والتدرّج في كل شيء، وسط جوّ عائليّ دافئ.
في المقابل لم يحملِ الكثير منهم أحلاما عالية، فقد وُضع هذا الجيل على مسار الحياة الحقيقيةِ وتحديد الهدف من البداية: إما بالتركيز في التعليم، والاستفادة من التطوّر التكنولوجي، أو كسب مهارة وحِرفة، تغني عن الوظيفة الحكوميّة التي تمكّن من توفير حياةٍ عادية وتكوين أسرة.
عندما تخرّج هذا الجيل، بدأتِ البلاد وقتها، نفض عباءة الشعارات، والتصالح مع العالم الحديث. مما وفّر لهم فرصا دراسيّة خارجيّة أو وظائف في الشركات الوطنية أو الشركات الأجنبية المتدفّقة، بعد العزلة الدولية.
الكثير من هذا الجيل، أصبحوا آباء اليوم، وقطعوا مرحلة مهمّة من حياتهم، واكتسبوا خبراتٍ ذاتية، وتكيّفوا مع الوضع العام. هذا الجيل مرّ بهدوء. واليوم، ينبري بعضهم للتنظير حول أسس التربية الصحيحة، ويقارن بين حياته، وحياة الأجيال الصاخبة التي أتت بعدهم.
(1990-1994): جيل المرحلة بين المرحلتين
هذا الجيل أفرزته المرحلة؛ فهو تلقّى قسطا كبيرا من تعليمه، قبل فبراير 2011، ودخل إلى الجامعة بعدها.
سار هذا الجيل – كسابقه – على بساطة الحياة الاجتماعيّة والتربويّة، مع وجود رخاء نسبيّ مقارنة بفترة الثمانينات. وعلى الرغم من أنّ البلاد دخلت لتوّها مرحلة العقوبات الدولية والمخاصمات، إلا أنّها ستنتهي، عندما يكون هذا الجيل أدرك الحياة مِن حوله، والناس استطاعت التحايل على الوضع المعيشيّ الصعب.
في تلك الفترة، تكوّنت سوق سوداء كبيرة، تحتوي على ما فُقد في البلد فترة الثمانينات. وسمحت الدولة بوجود بعض أشكال الرفاهية، مثل: الستالايت فوق الأسطح. هذا الجيل هو جيل التكنولوجيا والديجيتال والألعاب الالكترونية.
الجيل الذي شهد الشاشات HD، وعاصر تطوّر الهواتف المحمولة من الأزرار إلى اللّمس، وتوفّر المحلات التي تبيع كل شيء، والمقاهي الخاصّة. هذا الجيل الذي واكب معجزة الانترنت والتواصل اللحظيّ والمباشر مع أيّ بقعة في العالم. جيل عاش المرحلتين الحياة البسيطة والحياة الصاخبة، وأثّر فيه هذا الانبهار بالتطوّر، الذي عايشه لحظة بلحظة.
وُصِم هذا الجيل بـ(المنعزل) عن المحيط العائلي، والـ(لامبالي) بالحياة الاجتماعية. جيلٌ غير مؤدلجٍ -بالمعنى الاصطلاحي للكلمة – وغير مثقل بأعباء الماضي بالكليّة. جيلٌ يحمل آمالا شخصية عظيمة وطموحا بالحصول على مستقبلٍ أفضلٍ على الصعيد المهني والحياتي.
هذا الجيل، كان شاهدا على تغيير سياسي رهيب، لا يتكرّر كثيرا في عمر الشعوب (انتفاضة فبراير 2011) فجّرت طاقاته. فكان وقود هذا التغيير، والمحرّك الرئيسي له، متوقعاً قطف ثمار آماله، ولكن للأسف، كانت صدمة هذا الجيل كبيرة، عندما انهار كلّ شيء فجأة، وتحطّم على صخرة واقع مُر، دفع فيه ربيع شبابه، فلم يستطِع تحديد مكانه وسط هذا الوضع الجديد، محاولاً في كلّ لحظة فهم ما الذي جرى ويجري، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. سواء باللحاق بركب الحياة العادية أو الهجرة خارج البلاد وتحقيق ما حلم به يوما ما.
جيل Z (1995-2005) : أحد آثار الحرب
هو جيل ذروة وسائل التواصل الاجتماعي على الأنترنت، والذي حرق المراحل في وقت قصير. واكبتْ طفولة هذا الجيل أشكال الرفاهية في آخر تطوّرها ومراحلها، أسوة بالجيل السابق له. ثم كَبُر فجأة وسط الحرب، وتشكّلت لديه مفاهيم جديدة عن الهُوية والأمان. مع انطلاق الحرب عام 2011 كان أكبر هذا الجيل، يدخل عامه السادسَ عشر، فلم يكن له رأيٌ أو فعل واضح، لكنّه كان متابعاً لما يجري ومتشرّباً لكلّ ما تفرزه الحروب، وهو أحد آثارها.
عندما بدأت حربٌ جديدة في ليبيا عام 2014 تفاجأ الجميع بتقدّم هذا الجيل إلى مقدّمة المقاتلين، متحفّزين لأن يطبّقوا كل ما رأوه خلال الأعوام الماضية من الحروب المتتالية. كسر هذا الجيل في غالبه سطوة العائلة والأخ الكبير. فيستطيع اليوم أن يفعل ما يشاء بمفرده، ويده على خصره متحسّساً سلاحَه بأصابعه.
قد يُمكننا القول، أنّ هذا الجيل، لا يؤمن بالتدرّج والهدوء، بل بعنصر المفاجأة والغلبة. أمّا على المستوى الفكري، يتساوى مع من سبقه في عدم تبنّي أيدولوجيّات سياسيّة واضحة، ولكنّ الخواء أكبر، ويسهل ملؤه بالأفكار القاتلة
فلا عجب أن تجد عددا منهم يتبنّى أفكارا متطرّفة ومُنساقاً نحو الموت بإرادة منه. تعمل الجماعات المسلّحة بكل أطيافها على استقطابه من خلال إغرائه بالمال السهل، وخاصّة الجماعات المتطرفة دينيّا، مثل “داعش” التي تركّز قوتها وتسخّر إمكاناتها لكسب هذا الجيل بالذات.
خاتمة عن التواصل بين الأجيال
عند الحديث عن مسألة التواصل بين الأجيال، يجب ألّا ننسى أنّ لكلّ جيلٍ شخصيّة فرديّة مستقلة، تكوّنت بفعل ظروفٍ اجتماعية معيّنة. فأي حوار يُقصي هامش التجربة الشخصية؛ يُساهم في تعقيد الأمر. واختلاف الثقافات والمُعتقدات بين الأجيال؛ لا يضرّ إنّما يُعطي صورة أشمل لأيّ شيء، فوجود أكثر من رأي يعني وجود أكثر من حلّ.
الحياة الحره
اعجبني
أولا مشكور على طرحك لهذا الموضوع المهم حبيت نعلق عليه تعليق بسيط الذي أريد قوله هو أن المشكلة في ليبيا ليست مشكلة جيل أو مشكلة عمر بل إن المشكلة الأساسية هي مشكلة الجهل بالدين وأصول الدين والعقيدة الصحيحة التي كان عليها الصحابة رضي الله عنهم فإن الرصاص يقضي على الإرهابي فقط ولكن العقيدة الصحيحة تقضي على الإرهاب هذا ما أحببت أن أفيدك به وشكراً