في بلادي التي حباها الله بكل ما يحقق الرخاء، موقعاً وموارد ومساحة وعدد سكان، يلوح في أفق الليبي الذي ليس عضواً في ميليشيا أو مقرباً من الحكم فقط العيش الصعب، السقوط والتشظي والمعاناة مطولاً.
بين الاعتصامات السلمية التي كان لها بريق معاندة الظلم بالسلم؛ وبين التسلح الذي ضيع حلم الدولة المدنية ضرورةً، انقشع ليل نظام الحاكم الفرد ليبدو سواد دياجي العصابات والجريمة والتطرف. إنها سيرة مختصرة عن شعب تنفس الصعداء، ولم يكن يظن أنها أنفاس حلم ليبيا الأخيرة، وآه يا وطني.
أينما يلتفت البسطاء من أبناء ليبيا لا يرون إلا العناء والعداء: موتى بالآلاف، ثروات مهدورة بلا حساب، سيادة لم يتبق منها سوى أكذوبة صورة على الخريطة، انشطار الكيان إلى إقطاعيات إرهاب وخطف ودعاوي تفوق وقهر وتعذيب، وكذب ملعون، وسياسيون نكلوا بالأرض والإنسان ليحكموا من ولدته أمه حراً، ويملكوا ما لا حق لهم فيه، ويوسعوا المقابر والمعتقلات وينوعوا في صور النهب واللصوصية جهراً. ظلم ممدوح ومظلومون مستهزأ بهم، ومدن تكسر عظام مدن باسم مبادئ لا وجود لها بل نقيضها، وألف آه يا وطني.
حين تدافع عن نفسك بالتعبير عن تضررك من حجر حريتك تفقد حياتك، وحين تطالب بأن يراك الطغاة الجدد بشرياً تسحقك أحذية الإرهاب، وحين تلزم الصمت يسقط فوق رأسك الهاون ويلحقك بمحفل الأشلاء المنثورة.. لكن كل ذلك عادي ضروري متوقع في عرف التحول الديمقراطي العجيب من زمن الدولة الأمنية إلى زمن دولة الفوضى والرعب، والمصير المجهول والكارثي على الأغلب.
صرنا نحسد جدودنا على أنهم غادرونا قبل أن يشهدوا هذا العصر القذر، رحمهم الله بأن اصطفاهم إليه قبل أن يروا الجنون المسلح يطوف في كل حي وزقاق.. كانوا أصحاب قيم ولو بلغوا أيامنا لأخذنا منهم الدعاء باللعن، وضعنا غداً كما نحن اليوم ضائعون حد عدم الفهم، و فوق حدود المرارة.
ضائعون بين شعار عبدة ملك ملوك طواحين الهواء: (معمر خط أحمر)، وبين شعار مسلحي الحرية: (الثوار الحقيقيين خط أحمر). بين (في مدخل الحمراء) و(للحرية الحمراء)، رغم أن اللون الأحمر رائع في الورد وتورد الخدود خجلاً ونقوش أكاكوس، وآه ثم آه أيها الأحمر المظلوم.
يا إخوتي المسلحين الكرام.. يا ثيران حلبة مصارعة بني جلدتكم.. أمن ليبيا يكمن في العلم والتنوير، في المحبة.. والثروة والسلطان معقودان بظفيرة التسامح ومشاركة الليبيين غير المسلحين في حرث الأرض بحسن الظن والإيثار، ليثمر نخل وزيتون ورمان يكفي الجميع حباً وأملاً. لا تؤاخذونني (مجنون يحكي وعاقل يسمع)؛ ففهمي للدين أنه ليس بوابة حرب إنه المعاملة، وعدم التعدي والتأسف والرجوع عن الخطأ.. وفهمي للثورة أنها رفع المظالم والبناء وإقالة الناس من عثرة الشقاء.. وآه من قلوبكم الصوان ونفوسكم التي لا ترتوي من شهوة العنف التافهة.
أنا واحد من هذا الشعب، لم ولا ولن أملك سلاحاً، ولا أعرف كيف أحشو مسدساً أو أذبح صوصاً.. أنا قاصر أيها الكاملون، لكن دعوني ومن على شاكلتي نحيا دون أن تجاورونا وتراقبونا وتعتقلونا وتخطفونا وتمطروا أيامنا ورؤوسنا بالشعارات الكاذبة والرصاص الأعمى. (خطونا ايش تريدوا فينا)، اتركونا في جهلنا المسالم وشظف عيشنا الذي نحن قنوعون به، لا نريد سلاحكم وشعاراتكم وبركم المميت بنا، نحن راضون بالعيش دون أن نظلم أو نظلم، ولكم النفط والكراسي والذخائر وكل الحظوة، فقط اتركونا نتنفس هواء نقياً لا تفسده أنفاسكم المرتوية بالدم البريء والبارود والأكاذيب.
لا تدفنوا أبطالكم جنب قبورنا وقبور أجدادنا، ادفنوهم في تراب الذهب، واتركوا لنا تراب ليبيا نعيش فوقه ونحن نحبه وننام تحته ونحن نسفه في الصدور والعيون. الله يرحم والديكم يا أروع ثوار العالم وأعظم ما أنجبت البشرية من نسل الكائنات الأسطورية.. وآه تليها ألف آه تخصنا، فاتركوا لنا آهتنا وألمنا لو كنتم تفقهون.