المستقبل، هذا الواقع السحري الذي يضفي طفيف السعادة على الحاضر لما يحمله من أمل التغيير أو الإضافة أو التطور. تصور بأنك في علبة صغيرة ضيقة وسأقول لك إن وجودك فيها هو من حال وجود حياتك، أنت باقٍ فيها إلى أبد حياتك، هذا التصور المختنق هو تماماً ما يمر به الشباب الآن، أو لنقل بعضهم حتى لا أُتَّهَمُ بالتعميم السلبي.
يمثل الشباب في ليبيا نسبة 60% أو هكذا قرأت في دراسة ما، يمكن القول إن معظمهم لا يملك رؤية واضحة حول مستقبلهم. الأمر يتوقف على الحظ، الفرص، ونعم! على الواسطة؛ فالمنظومة الحكومية لا يمكنها استيعاب أمواج الخريجين الغافلين في خضم بهجة التخرج عن حروب الاستنزاف التي تنتظرهم.
ذلك يتعلق بأمريْن، أولهما كون دوائر العمل تدور حول نفسها، إذ تكاد بعض الوزارات لا تقوم بأي شيء البتة سوى توقيع الأوراق وإفراز رواتب موظفيها، وهذا ليس بغريب عن دولة ريعية كليبيا تقتات من عوائد نفطها فقط، وتعتمد عليه اعتماد الوليد على حليب أمه.
مكاتب العمل ماهي إلا صالونات شاي وقهوة، فيها ينال بعض الموظفين راتبين إلى ثلاثة، إذ أفادت تقارير ديوان المحاسبة في عام 2018 بوجود حالات فساد في بعض البلديات مثل بلدية الساحل في الشرق الليبي، والتي تقوم بصرف رواتب تصل إلى 600 دينار شهرياً لأناس موتى ولأطفال دون سن العاشرة.
الأمر يخص منظومة كاملة التراتبية في ليبيا، منظومة تخضع كغيرها من بلدان العالم الثالث لا لمبدأ الأفضلية بل للمحسوبية. الأمر يتوقف أيضاً على هيمنة الأفراد على القطاع العام، إذ غالباً ما يتم خصخصة الدوائر الحكومية بشكل غير مباشر من قبل مدراء وأصحاب حكومة الظل، فهل يمكنني الكذب هنا؟ لا!
عزيزي الشاب/شابة مهما قرأت أو استزدت من العلم منزلة، أو تعلمت فوق لسان لغتك لُغة أخرى، فإن هذا الأمر لن يغير من وضعك في شيء، الأمر لا يتعلق بك أنت في نفسك، بل بك أنت كجزء من المنظومة، لذا لا يمكننا تجنب ذكر هذا الأمر كأنه عارض عن جوهرنا، كلا جوهرنا هو هذا ولعمري سأستغرب لو لم نكن هكذا، لكن ما المختلف الآن؟ لماذا أكتب هذا المقال إذن؟.
مادام هذا نحن، والفساد الإداري ليس بالمستغرب في بلاد المليون حافظ. هناك حساب لوجود عنصر آخر في المعادلة: الحرب. إذ مثَّل الفراغ الذي أعقب الصراع المسلح في ليبيا فرصة مثالية لما تم ذكرهم سلفاً، فيما اقتنص بعض غير الأكفاء فرص الوظائف الشاغرة عن طريق القفز وتوثيق الأمر الواقع، وهي الفئة التي تقفز على بعض الشواغر الوظيفية التي تستحيل عليها في الأوضاع الطبيعية، فتقتنص فرصها في حالات الكوارث العامة والحروب فيما يسمى قانوناً بالموظف الفعلي.
الآن تبدو معظم القواطع العامة مستكفية العدد، وفي بلد يبلغ عدد سكانه 6 ملايين أو 7 على أكبر تقدير تبدو هذه الكلمة من السخرية بمكان، ولكن وعلى الضفة الأخرى من التفكير لابد من الإقرار بأن معظم البلدان متصدرة الاقتصاد كألمانيا مثلاً، تقوم معظم أساساتها على القطاع الخاص لا العام، ولكن اشتراكية النظام السابق في ليبيا أبت أن يكون لهذا النظام الرأسمالي التنافسي موطئ قدم في ليبيا، جاعلة من النظام الأفقي خط سير لها، وطبعاً وبسبب الفساد مجدداً فإن هذا الخط الأفقي يطبق فقط على فئة معينة فقط فيما يتتبع رؤوس الأهرام الخطوط العمودية الرأسمالية في أقصى صورها.
حسناً، يبدو من حوصلة كل هذا بأن الحلول الأكاديمية غير متاحة الآن لأصحاب الشهادات العليا والمتوسطة في ليبيا، وبسداد فرص العمل التي تليق بأصحاب الشهادات العليا تبدو الحلول المسلحة بالانضمام إلى أي فصيل مسلح هي أكثرها يسراً وأسرعها مكسباً، وهل يلام من قام بالانضمام؟.