أين تقع أم المقاتل الليبي، بل أين تلتقي أمهات المتحاربين من الليبيين في كل اتجاه؟ اللواتي يواصلن الدعاء كل ليل لأبنائهن الليبيين أن يحفظهم الله من خصومهم الليبيين الذين تدعو لهم أمهاتهم هن أيضا بالحماية والحفظ! هل تقع أم المقاتل اجتماعيا على مستوى القيم في القمة أم في السجن؟ هل نحن في مجتمع أم في كوى مفتوحة على السماء لكنها لا تردع الولد لكيلا يقع له ما يقوم الدعاء بمحاولة تجنيبه إياه؟ هل ليبيا مجتمع بشر أم كهوف دببة تخرج للفتك بالفريسة ومن في الكهف يرون الخارج عاديا وطبيعيا وبطلا يستحق الدعاء بالصون؟
الأم الليبية اليوم هي أم متهَمَة بامتياز؛ بسبب من ولدت والخوف عليه والرغبة الجامحة في حمايته، لا يفهم شعورها من الناحية الطبيعية والإنسانية بل يحمّل بالذنب والاستنكار استنادا إلى التصنيف السياسي والجهوي، ويتناسى من يصنفها أن كل الأفكار لا تبرر إلقاء اللوم على الأم لحبها وليدها حتى وإن كان دمويا وعنيفا، فقلب الأم خارج التقييم وهذا ما لا تفهمه حمى الصراع في ليبيا ومؤججوه.
ينبغي أن يكون هناك حراك ضاغط لجهات نشطة فاعلة رسمية وغير رسمية لحماية الأمهات والتخفيف عليهن، بل وضمان حقهن الموهوب من الله في العطف والرحمة، وأن يتم إخراجهن من الأحكام القاسية والقذف والتشهير والتعنيف والتعدي.. بالأخص من الذكور الذين يملكون شعلة إيقاد الحرب وأتباعهم الذين هم أيضا أبناء أمهات مكلومات بضرر القهر والقتال.
في ليبيا الآن فوضى عارمة، تمس الأصول وتحط من شأن العائلة، وتزدري صلة الرحم النابعة من ترابط وثيق بين الناس ووالديهم وخاصة الأمهات. كان العزل والاستخفاف بالعاطفة الأمومية ممنهجا في عصر ما قبل فبراير 2011 لإرغام المعارضين على الرضوخ بالضغط على عوائلهم وتعميق جراح الوالدات، وبعد فبراير 2011 صار ذلك دونما تخطيط منطقي لأنه تجاوز حالة التكتيك الأمني إلى واقع تبرير مجازر لا إنسانية معتادة ويومية تنتهك حقوق الأسر دون ردع وبمباركة من النظام المليشياوي اللئيم وجنون الطمع اللامحدود وبمرجعية من علماء أجلاف شهوانيين ظلاميين يحكمون بكل هدم وتدنيس وتنكيل وتحقير حفاظا على ما يسمونه المقدس الذي يناسبهم ويرعى تماديهم في الحكم والسرقة وتصفية المنافسين والمخالفين.
نشأت هوامش مدارسنا على سباب وضيع للأمهات؛ كونه يؤثر في التلميذ الخصم ويحط من فخره بأصله واعتزازه بمن رباه، من هناك بدأت تتآكل الحياة الاجتماعية الصحية، تعليم ليس به تربية وتربية تقوم على التلقين والتنفير ورفع الصوت والإهانة والضرب، وأمهات يقمن من الفجر لتهيئة يوم جيد لأبنائهن صبرا وخدمة ورعاية ورحمة ووصايا ليقوم بإهانتهن سياق أخلاقي بدائي، ومنظومة من تعريف الرجولة والذكورة بالمغالبة والسباب، ظهرت نتائجها الكارثية الآن من اتجاه أمة كاملة إلى التحارب والفناء وبلد بكامل مقدراته إلى الفشل والإفلاس على كل الصعد.
نحن مجتمع عاقّ؛ تحصد آثاره أمهاتنا وآباؤنا أيضا.. كوننا ننظر إلى العالم انطلاقا منا ونفهمه بداعي وعينا الفذ بكل شيء والهزء والتخطئة لكل وعي مغاير، طال في الواقع الاجتماعي الليبي المعاصر أمهات أنصار القذافي وأمهات المنعوتين بالثوار وأمهات جنود الجيش بل وحتى أمهات من تم التغرير بهم للالتحاق بداعش ليبيا، لكن الأكثر تضررا هن أمهات من بقوا على الحياد ولم يدخلوا في حلبة الصراع العنيف ولم يستقطبوا لأي اتجاه رغم وعيهم بضرورة وجود الدولة المدنية المعززة بالسيادة والحقوق والواجبات.. وصفوا بالمخنثين واتهمت أمهاتهم بالضعيفات المتخاذلات بعدم دفعهم للافتداء وسحقوا هم ووالداتهم تحت الأحذية والسبابيط والشباشب، وعوملوا كلهم كمجردين من حقوق المواطنة وذهبوا للظل رغم أن ليبيا الآمنة لن تقوم إلا بهؤلاء في الطليعة وبصمود قلوب أمهاتهم المشرقة أمام نزعات الهياج والتبجح والتفاخر والثراء المتسخ بدم أولاد نساء أخريات هن أمهات ليبيات يملكن أيضاً قلوبا لا حجارة صماء.