في ليبيا تحدث أشياء مدهشة. فقد ظلتْ البلاد في حالة اتزان سياسي لأكثر من نصف قرن. لم يتوقع أحد أن يحدث كل ما نراه حالياً. الصدمة كانتْ لوعي الليبيين قبل الآخرين. خلال فبراير 2011 كانت التوقعات تشير لإمكانية سقوط العقيد الليبي سريعاً، أحد أركان النظام اتفق مع أحد كبار معارضي النظام متوقعين بأن السقوط الحتمي سيتم خلال أقل من أسبوع لإسقاط النظام ومن ثم السيطرة الكاملة على البلاد، وهو ما يجعل الواقع محزناً.
الدولة الليبية أصبحتْ في أكثر فتراتها ضعفاً، البعض يقارن الوضع بما كان عليه بعد الحرب العالمية الثانية مع اللمسة العصرية، الإدارات والمؤسسات السيادية غدتْ بأيدي الليبيين، نتج عن هذا التالي: القبائل القوية تقاتلتْ للاستحواذ على الأقاليم التي تقطن فوقها. الأحزاب المتقاتلة تقاسمتْ الشرعية خلسة. الفقهاء تقاسموا الفتوى والمؤسسات الدينية. السلفية أعلنوا بأن الإخوان خوارج بأدلة من شيوخ الوهابية، دون أن يفسروا لنا خروج محمد بن عبدالوهاب نفسه ضد الخلافة العثمانية وعلى محمد علي باشا الذي كان تابعاً للعثماتيين وقتها. في المقابل وقف الإخوان معتبرين أنفسهم ورثة للسنوسية كما يحاول علي الصلابي أن يُوضح، وقد كان ألف كتاباً يهاجم فيه الخوارج، وهو الآن بأدلة شرعية – ممن اعتبرهم مراجع لكتابه – أصبح خارجياً بجدارة قل نظيرها. أصبح هناك طواغيت ومرتدين عن الدين. كما ظهر مؤخراً – المواطن الأمريكي من سياتل علي الترهوني الذي صنع لجنة عمل دستورية خاصة به، طرد منها التبو والطوارق علناً. التقاسم المستشري في جسد الدولة لم يترك فرصة للتفاهم بشكل هادئ.
منذ الحرب العالمية الثانية، لم يشهد المجتمع الليبي خطراً فعلياً يُهدد بنيته المؤسساتية. فقط القليل من الصراعات بين الإسلاميين والقوميين، الحروب ضد التشاد بالرغم من طولها لم تكن تُهدد المجتمع الليبي. المواطن الليبي العادي لم يشهد الكثير من تلك الأحداث الجسيمة داخل الأراضي الليبية. فبراير 2011 تعتبر التحدي الحقيقي للمجتمع الليبي بأسره. صار الجميع يقتل الجميع. تُذكر التجربة اللبنانية بشغف بالغ، ففي قلب المدن ظهرتْ محاور القتالية. مباني عليها قناصة. طرقات تحوي آليات تقذف القنابل. السيارات المفخخة. الثأر الشخصي أصبح متفشياً كالوباء. أصدقاء يصنعون الكمائن لأصدقائهم. في المقابل توجد مناطق سكنية كاملة تعيش حياتها الطبيعية من الذهاب إلى المقاهي. إقامة دوريات كرة القدم. الزيارات متبادلة. حفلات الزواج. الاحتفالات بافتتاح القنوات الإخبارية. الأسواق العامة مفتوحة. المدن لا تتوقف عن العيش حتى خلال الحروب، لكنها تستمر في إنهاك ذاتها.
خلال أقل من نصف عقد، بدأ كل شيء يكتسب معاني مختلفة. بداية الأحداث كان الجميع يتوقع نمواً اقتصادياً سريعاً. كانت هناك شعارات عن انبهار العالم بالليبيين. أحلام بظهور أبراج عملاقة، سرعان ما تحولتْ لكوابيس لا بد من الإفاقة منها. الواقعية صارتْ هي الذهنية السياسية التي أخذتْ تظهر مجدداً، الذهنية التي فقدتْ عقب الخمسينيات مع الوفرة. مسألة دعمتْ مؤخراً طلب الأطياف الليبية لمبدأ الحوار. جزء من المشكلة التي كنا نعيشها – في المدن الليبية كما يؤكد كبار المتابعين – هو اختفاء لغة الحوار. قبل فترة كانت الحجة المنطقية لمنع النقاش والتحاور مع الخصم هو سؤال بسيط يقول: كيف نتحاور مع من يقتل ابناءنا؟ لا أحد كان يعرف كيف يمكن أن نفعل ذلك، لذا تقاتلنا في كل بقعة من البلاد حتى أصبح القتال بحد ذاته هوية للبعض. صار لزاماً إيقاف هذه الدوامة قبل أن تذهب بالمجتمع نفسه.
هناك رغبة شديدة للتحاور وإنهاء الحروب بين الأطراف المتقاتلة، ليس فقط ما نراه على السطح الليبي ضمن الصخيرات، جنيف والجزائر، بل ما يحدث فعلياً عند المحاور القتالية. ففي الجنوب في قلب أوباري، في عمق القتال الشرس بين شعبي التبو والطوارق، حيث الكمائن، القناصة، الأحياء السكنية المدمرة، النازحين والتجاهل الاعلامي، استطاعت مجموعة من التبو والطوارق أن يفتحوا قنوات للحوار، أوقفتْ العلميات القتالية لبعض الوقت. الغريب أن مكان الحوار الوحيد كان في غرف ومجموعات الواتساب. نعم داخل إحدى مجموعات الواتساب، لهذا الحد أصبحت الواقعية الليبية مدهشة.