ستكون هناك دوماً أحداث لا تكف عن التكرار في ليبيا، فمثلاً معسكرات بنغازي – خلال السنوات القليلة الماضية – شهدتْ أكثر من مرة ظاهرة تكدس المسلحين من أجل نصرة قضية ما، الفزاعة بمفهومها الشعبي، العشرات منهم يحلقون في حركات دائرية على السيارات الصحراوية، جالسين بانتشاء على مقاعد أسلحة مضادة للطائرات، معدة لقتل البشر إلى جانب المدافع المتوسطة والثقيلة، ولا يمكن تجاهل كتل الأغطية – التي كانت جزء أساسياً ضمن مشهد الثوار في الجبهات – تسببتْ بكوارث جانبية غير مقصودة مع حفظ بشاعة تلك الكوارث المقصودة من حرق المنازل وقتل المدنيين وتدمير المنشآت الحيوية، فبعض المناطق فقدتْ بشكل كلي أي مشهد فعلي يُذكر بوجود أي مبنى حكومي أو تاريخي فيها، انتهتْ تماماً بعض أجمل الأحياء، هدمتْ كلها أو ظلت مجرد أنقاض متهاوية تخلف حزناً في النفس.
كل ذلك يبدأ عادة بصوت شخص واحد. في تاريخ طرابلس بدأ شخص واحد، بدق أبواب بيوت المدينة، بابا باباً، داعياً للثورة، فلم تُشرق الشمس حتى كان حاكم الدولة – آنذاك – قد فقد رأسه. عسكري آخر – يدعى أحمد القرمانلي – منح رسالة لإيصالها لشيوخ الجبال كان فرماناً بقتله، قام بتزويره وكتب كلاماً دفع نفس الشيوخ للثورة والزحف على طرابلس، قامتْ بتعليق رأس حاكمها ونصبتْ القرمانلي حاكماً بدلاً منه، فحكم البلاد بالنار والحديد معلناً ولادة إحدى أشهر فترات الحكم الليبية، دولة القرمانلي، يقارنها البعض بحكم العقيد القذافي، الذي بدوره يقال بأنه اكتشف كلمة السر لتحريك الجيش – لانقلاب كان يعده أحد المتنفذين في القصر الملكي – فاستخدمها لصالحه ليلة الأول من سبتمبر.
الليبيون مولعون بهذه التفاصيل الدرامية. ففي شوارع بنغازي فبراير2011، ظهر شخص مهلهل الثياب داعياً لإسقاط نظام استمر لأربعين سنة كاملة، لم تمض ثمانية أشهر إلا وكانت البلاد كلها مشتعلة مثل الجمر، صواريخ توماهوك وكروز تُطلق من مسافات هائلة، اجتماعات في كل المدن الكبرى، تصريحات وانشقاقات وطائرات الناتو تحلق بوحشية في سماء البلاد، تقصف كل تحرك فيما ظل القذافي يتساءل باندهاش عن سبب إلقاء كل تلك القنابل!
إنها جزء من أحداث ليبية صرفة لا تكف عن الحدوث، قد تتوقف لفترة لكنها لا تكف نهائياً. خلال نهايات عام 2011 بعد سقوط القذافي بأقل من شهر، ظهرتْ سيارات بيك – أب عبر شوارع مدينة بنغازي، ممتلئة بالشبان الغاضبين من المناطق الجنوبية، يحملون الدفوف والطبول، يدقونها بالعصي محرضين الناس لتحرك ضد خطر التبو والاحتلال التشادي القريب من بلدة الكُفرة، ظهرتْ كتابات على الجدران، كما انتشرتْ بيانات عبر الاذاعة، سرعان ما انتشرتْ كلمة الفزاعة في الشارع كالوباء، كان فوزي بوكتف يتحدث عن الجيش الموازي بأخلاق الشعب، داعياً لتأسيس سرايا تجمع الثوار، لم تمض إلا أسابيع قليلة حتى رأينا معسكرات بنغازي محتشدة بالشبان، بالأسلحة المتوسطة والثقيلة، بصراخ جنوني قال أحدهم بأنهم منطلقون إلى بلدة الكفرة، كان ذلك بتأثير الفزاعة.
أُشعلتْ هناك حرباً استمرتْ حتى هذه اللحظة لخمس سنوات كاملة، من تلك الحروب تكونتْ سرايا الثوار، من تلك السرايا ظهرتْ كتائب الدروع، كان قادتها هم أنفسهم الذين قاتلوا التبو في الكفرة وهم أنفسهم من نسميهم بالدواعش هذه الفترة، والذين يقاتلهم خليفة حفتر بحماس المنقذين، هؤلاء حين عادوا من الكفرة قام هو بالذات بتعميدهم أبطالاً منقذين، بعدها بأقل من سنتين بدأتْ عملية الكرامة.