أواخر أيام شهر فبراير الماضي، مرت على الليبين حالة من الحزن الشديد المشوب بالألم والحسرة. وتملك بعضهم مسحة من التشاؤم لا حد لها، لمدى الانحدار الذي وصلت إليه الحالة الليبية بسبب ما حدث للطفل عبد الإله عبد الله دغنوش الذي اختطفته عصابة مسلحة بمنطقة صياد غرب العاصمة طرابلس، وفاوضت أسرته بتسليمهم مبلغ مليوني دينار مقابل الإفراج عنه. ولما عجزت أسرته عن توفيرالمبلغ، قامت العصابة بشنقه ورميه أمام منزله ملفوفا في بطانية ومقيداً بالحبال، كشاهد على تغول المنحرفين وعلى غياب الدولة الكامل وفشل مؤسساتها في ملاحقة المجرمين وردعهم.
ولا يتسع المجال هنا لحصرالمآسي والكوارث التي حصلت عن طريق الخطف والابتزاز المالي، فعندما يعجز الأهل عن دفع المبلغ المطلوب، يتم قتل الضحية بدم بارد والتمثيل بجثته، فالأرقام مخيفة وتنذر بشر قادم تسود فيه شريعة الغاب.
مع بداية العام الماضي وهذا العام، وبسبب الفوضى العارمة التي حصلت في البلاد، صار القتل مهنة يرتزق منها المراهقون والشباب العاطلون عن العمل، والذين لايهمهم فكر، ولا تعنيهم أجندات سياسية ولا إيديولوجيا، ولا يقرأون صحافة، ولا يتابعون وسائل إعلام. مهنة جديدة لا تكلفهم الكثير، شريحة نقال وسيارة بزجاج معتم لا تحمل لوحات، ودقة في اختيار الضحية، بعد استطلاع سريع لحالة أسرته المادية، وغالبا ما يكون الهدف أطفال يترصدون لهم عند عودتهم من مدارسهم، فلا يعودون إليها إلا بعد دفع المليون ونصف المليون وربع المليون دينار على أقل تقدير.
أتذكر أول شهر يونيو عام 2014، عندما كتبت لصحيفة ميادين الليبية مقالاً عنوانه (من يقتل فينا؟)، ملخصه كان دق جرس الإنذار حول ما كان يحدث وقتها للصحفيين والنشطاء السياسين من قتل ممنهج يتم فيه معرفة القتيل بصعوبة بسبب وحشية القتل، دون أن تصدر من مؤسسات الدولة القائمة في ذلك الوقت، أية مساعي حقيقية لتطبيق العدالة والتحري لمعرفة القاتل الذي يمكن بسهولة تحديد هويته، فتسجل الجريمة ضد مجهول ليستمر القتل حتى وصل العدد لإرقام مخيفة.
في ذلك الوقت كان القتل يتم بانتقائية شديدة، حيث يتم اختيار الهدف عن قصد، والذي في الغالب يكون صوتاً يجب إسكاته لأنه مؤثر ويدعو بالحق والخير والنظام والأمان والعدالة والأمن والسلام والدولة المدنية. ولهذا السبب أيضا كان تنفيذ كل جريمة يتم بوحشية مبالغ فيها، وكأنها رسالة تحذير لكل من يفكر في المناداة بالمبادئ التي نادى بها البطل المغدور. وبسبب عدم اكتراث المسؤولين بخطورة الأمر حتى لم يكن من أولويات حكوماتهم الحد من ارتفاع نسبة القتل، فبدلاً من البحث عن المجرمين وتقديمهم للعدالة وعرض وقائع محاكماتهم على الرأي العام ليكونوا عبرة لمن يفكر في قتل آخر يخالفه في الفكر، كانت بعض وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، تستثمر في الدم المهدور، فتحوله لمادة إعلامية جيدة صالحة لللاستهلاك، وتقوم وبشكل علني بعرض مشاهد حية شديدة الوضوح لبعض من ارتكب هذه الجرائم، وتفاخر بارتكابها، وهكذا يقفل ملف القضية بين مؤيد ومعارض لها.
وتتكرر نفس المشكلة من حيث عدم القدرة على ضبط حالات القتل الفردي من أجل الحصول على المال، والتي يصعب حصرها بدقة، ناهيك عن معرفة مرتكبيها، ولكن الموثق بالأرقام عند المنظمات المختصة عن القتل المنظم في ليبيا يثير جانبا كبيراً من القلق. فقد نشرت هيئة الأمم المتحدة يوم الخميس 24 فبراير 2016 تقريرأ مروعاً من خمسة وتسعين صفحة، أعده ستة من مسؤولي حقوق الإنسان التابعين للهيئة، عرضوا فيه أدلة تشير إلى إعدام أسرى واغتيال ناشطات بارزات وعمليات تعذيب واسعة النطاق وجرائم جنسية وخطف تم ارتكابها كلها منذ بداية عام 2014، وأن أسماء من يشتبه في أنه ارتكب هذه الجرائم موثق وستتم إحالته للمحكمة الجنائية الدولية ذات الاختصاص.