(كل حامل سلاح عليه أن يتوقف عن القراءة، فلقد حسم أمره، ولن يعنيه هذا الكلام، فعندما تقوم الحرب، لا يتكلم إلا السلاح.. وبعض الجبناء! وليعلم أنني أحسده على موقفه هذا، وأحسده على راحة البال التي منحتها له بندقيته)
قد يخرج هذا المقال في صورة ساخرة، وربما خرج متجهماً، ساخطاً، و قد يأتي مبالغاً في التفلسف، الأخيرة ستغضب معظمكم وسيعتبرها اعتداء شخصي على كبريائه.
أعتذر عن ذلك مسبقاً!
أغلب الظن أنني سأبدو يائساً غاضباً وميالاً إلى العنف والتجريح، لكنني أؤكد لكم أنني أكتب الآن وشهاب من نارٍ يخترق صدري، الآن.. الآن، ويستقر في قلبي، وهو يؤلمني، ليس بصورة مجازية، إنه يفعل ذلك فيزيائياً الآن.. الآن، وفي هذه اللحظة، ولولا كرهي للمستشفيات وللأطباء لذهبت منذ مدة لعلاج هذا المرض، الذي أتصور أنه انعكاس جسدي لتعرضي لهذا القدر الهائل من التوتر والضغط النفسي ـ كمعظم الليبيين المحليين ـ والذي لم أفلح في تسريبه إلى الخارج بشكل جيد فأثّر بصورة مادية على جسدي.
حسناً..
سأكتب المقال التالي، ولعلي أسرب من خلاله شيئاً من توتري، لأنقله إليكم، فأحظى بعدها بشيء من الراحة قد تخلصني من هذا الوتد المغروس في قلبي الآن.. الآن، وطيلة أشهر مضت، على أقل تقدير:
***
يمكنني أن أبدأ من 2003، حيث صدام حسين وغزو العراق بصورة همجية، وحيث المأزق الأخلاقي الذي اختبرتُه نظرياً، كفكرة مجردة، بحكم ابتعاد الحدث عن بلادنا.
يمكنني أن أحكي لكم كيف غيرني ذلك الحدث نهائياً وبصورة لم أكن أتصورها.
أو يمكنني أن أبدأ من 2011 حيث معمر وفبراير وغزو ليبيا بصورة عبقرية ـ لا تقل همجية عن غزو العراق ـ استطاع مبدعها أن يجعلك، أنت، تشعر بالحرية، بينما بلادك تعاني الاحتلال، واستطاع أن يمكن المحتل من ممارسة أقسى أشكال الديكتاتورية وسلب الإرادة، بينما تركك، أنت، تعلق صورك على جدران مواقع التواصل الاجتماعي رافعا سبابتك المخضبة بالبنفسج متباهيا بعرسك الانتخابي، الذي يبدو في حقيقته أقرب شيء إلى حفلة اغتصاب جماعي لإرادة شعب، ولكرامة أمة.
يمكنني أن أبدأ من نقاط كثيرة تتركز فيها الخسارة، وتتكثف المأساة، وتتأبد في صورة سوريالية تجمع بين المحزن والساخر، بين المتفجع والضاحك، وبين نصر متوهم وهزيمة تخفي بؤسها أهازيج المحتفلين في مزيج شيطاني يضرب المنطق ويحطم أقسى القلوب وأقواها، ويحير أكثر العقول قدرة على توقع الأحداث واستعدادا لاستيعابها..
يمكنني أن أبدأ من حيث أريد، ولقد اخترت أن أبدأ من هنا، من الفوضى والنظام:
يقول أحد الشعراء:
“إن الأرواح الصغيرة تتوق إلى النظام، أما الأرواح العظيمة فتتوق إلى الجمال”
(لاحظوا أنه لم يقل تتوق إلى الفوضى)
لن يصدقني أي منكم لو أخبرته أن هذا هو ـ بشيء من التفلسف ـ السبب الذي منع قيام الثورة في ليبيا، ليس في ليبيا فقط.. في المنطقة كلها!
ليبيا على كل حال هي المسرح الذي لطالما ظهرت فيه أزمات المنطقة، ومشكلاتها، وأمراضها بصورة واضحة وبدائية ومحزنة، محزنة جداً.
(أخبرني أحد الظرفاء من أصدقائي، في حوار عابث، أن التاريخ يحدث مرتين الأولى “محزنة” وتحدث غالبا في مصر، وأحيانا في العراق، أو الشام، أما الثانية “فساخرة” وتحدث دائما في ليبيا!).
الأرواح الصغيرة ـ إذن ـ تتوق إلى النظام، أما الأرواح العظيمة فتتوق إلى الجمال، وهذا هو السبب الذي منع قيام الثورة في ليبيا، وفي المنطقة كلها، هو السبب الذي حول ما اعتقد الليبيون أنه ثورة (أو ما اعتقد عدد غير قليل منهم أنه كذلك) إلى هذه القذارة التي غرقتم فيها حتى آذانكم.
دعونا نتقدم خطوة إلى الأمام، لندخل في الجزء المتفلسف من المقال!
لم تحدث الفلسفات ولا الفنون والآداب العظيمة إلا بالخروج عن النظام، وبكسر الرتابة والروتين وتجاوز القاعدة، لكن هذا الخروج لم يكن أبدا خروجا عبثيا أو عشوائيا، حتى وإن بدا لنا نحن العاديين عابثا أو عشوائيا بشعا (والبشاعة قد تكون أحيانا هي الجمال ذاته منظورا إليه بعين فقيرة، عين استطاعت أن ترى خروجه عن النظام، لكنها عجزت عن إدراك العلاقات الجديدة التي يحاول تأسيسها)، كلا، كل الفلسفات والفنون والآداب العظيمة خرجت من النظام إلى الفوضى لكنها كانت دائما تتوق إلى الجمال، وتتخيله!
والجمال بحرٌ إذا أردنا تعريفه فإننا لن نتوقف عن عرض مقترحات الفلاسفة والمفكرين، فهو قيمة تستعص على الانضباط في تعريف نهائي صارم، لكن كل تعريفاته المقترحة لم تخلُ أبدا من صفة “التناسق”، أو ما يمكن أن أسميه أنا ـ خدمةً للمعنى المقصود ـ الانتظام الجديد غير المسبوق، الباعث على الدهشة والسرور.
فالجمال إذن جديد دائما، حادث في المستقبل دائما، ونحن لا يمكننا أبدا أن نحوز الجمال ولكن يمكننا دائما أن نسعى إليه وأن نسير في اتجاهه، وأن نلامس أطرافه.
الأمر هنا يشبه مفهوم السعادة، فالسعادة لا تحدث في ذاتها، لا تحدث في الزمان والمكان .. ولكنها تحدث أو تتحقق في ومضات خاطفة على الطريق الطويل في سعي الإنسان المستمر إلى تحصيل اللذة والتخلص من الألم!.
هل سألتم أنفسكم لماذا كانت الثورة دائما، باعتبارها تحطيم للنظام وخروج عليه، أكبر ملهم للفنانين والشعراء والمبدعين الكبار؟
هل سألتم أنفسكم لماذا اندفعوا دائما إلى تأييدها بالقصيدة وبالمقالة وبالرواية وباللوحة، بل وبحمل السلاح؟
الجواب في نظري بسيط جدا، لأن الثورة كانت دائما أقوى و”أطهر” تمثيل لما في نفوسهم من رغبة في الخروج عن الأنظمة والقوالب، وتحرر من قيود السائد والموقر .. إنها الخروج الكلي والكامل، الخروج الجماهيري عن السائد والموقر .. وعن النظام
الحكومة نظامٌ، والثورة فوضى بقصد ترقية النظام، الحياة نظام، والفن، الأدب، الثقافة عموما فوضى تتغيّا معرفة الجمال
(انقسم الفلاسفة والمفكرون دائما ـ بحكم أنهم أكثر قدرة على الاحتفاظ بالموضوعية والحياد ـ في التعاطي مع فكرة الثورة، فبعضهم غلب رصانة المعرفة، فرفض الثورة، وبعضهم غلب رومانسية الخروج، التجديد، العظمة، وراهن على الجمال!).
هنا وقع مثقفونا (اعفني من الإجابة عن سؤالك النرجسي: ماهو تعريف المثقف؟ فليس هذا موضع تعريف المثقف) الليبيون، وكثير من مثقفي المنطقة، سواءا أصحاب الأرواح العظيمة، فعلا، أوالمدعين .. وقعوا في خطيئة، أو في فخ، أو فلنقل في مغامرة دعم الثورات
ولا أظن أن أحدهم تساءل:
هل تتوق هذه الجموع الثائرة إلى الجمال، أم أنها تتوق إلى النظام؟
هل فيها ـ على الأقل ـ نخبة كافية، واعية، ومستعدة للتضحية، تتوق إلى الجمال؟!
هل فكروا:
(إن كانت الجموع تتوق إلى الجمال فلا بأس بتشجيعها لأن هذا معناه أنها تتوق إلى المستقبل، إلى ابتداع تناسق جديد في العلاقات بين الناس، تناسق مدهش وباعث على السرور، فهي مادمت كذلك ستنتظم في دولة “أجمل” حتى وإن تعثرت في تدافعها فترة من الزمن!.
أما إن كانت تتوق إلى النظام فإن هذا يعني أحد أمرين:
أن هذه الجموع تريد تبديل النظام الحالي بنظام سبق وأن عرفته، وربما كانت هذه المعرفة مادية واقعية كأن ترغب بهدم الجمهورية للعودة إلى النظام الملكي، أو أنها معرفة تاريخية كالرغبة بهدم الدولة الوطنية-القومية للعودة إلى الدولة الدينية-دولة الخلافة الحاضرة في كتب التاريخ، وربما في المرويات الشعبية، والمدعومة من العاطفة الدينية السطحية الساذجة (عاطفة المراهق الدينية).
إما هذا أو أن هناك مجموعة عرقية أو طائفية أو طبقية تريد أن تنتزع النظام من العرق أو الطائفة أو الطبقة التي كانت تسيطر عليه وهنا يدخل النسق الثوري السائد تاريخيا في المنطقة منذ آلاف السنين، أعني تآمر طائفة دينية أو عرقية أو قبلية على طائفة حاكمة وتحشيد الناس ـ الغاضبين من النظام، بغير توق إلى الجمال، مجرد غضب كغضب البعير ـ وتأليبهم وإثارة القلاقل بهدف الوصول إلى الحكم والتنكيل بالطائفة الحاكمة المهزومة)
ما بين القوسين مجرد محاولة للدخول في عقل مثقف فكر قليلا!
ما حدث في ليبيا كان انتقالا من النظام إلى الفوضى، وهذا طبيعي مبدئيا، إلا أن غير الطبيعي (هل يمكنني أن أقول غير الملاحظ أيضا؟!) هو حقيقة أن هذا الانتقال ـ وفقا لحالة المجتمع لحظة قبل الفوضى ـ لم يكن ترقيا إلى أعلى، لم يكن من الممكن أن يكون ترقيا إلى الأعلى، يقصد إلى الجمال، ولكن كان سقوطا إلى أسفل نحو المزيد من البشاعة!.
كل فوضى “ثورية” جيدة تحدث بين نظامين، نظام يقع قبلها-تحتها وهو نظام أبشع، ونظام يقع بعدها-فوقها وهو نظام أجمل. هذا لم يحدث في ليبيا فالفوضى كما يبدو وكما تشير إمكانات المجتمع الحضارية والثقافية والمؤسساتية كانت سقوطا من نظام بشع إلى نظام أبشع!.
لهذا فإنني أتصور أن على المثقف العامل (أعني المثقف المنشغل بالاستجابة للواقع “العضوي”، غير العاكف على التأمل ونقاش الأفكار المجردة.. فهذا معفيٌ، شرط أن لا يحاول فرض تجريداته على الواقع) أن يدفع في اتجاه منع تحويل هذا السقوط في الفوضى إلى نظام أبشع، عليه إن يقاوم السقوط، وعليه أن يعرف أن العودة إلى نظام سئ-بشع، يشبه النظام الذي انطلقت منه هذه الفوضى قد يُعتبر إنجازا عظيما في مثل هذه الظروف
أعتقد أن هذا ما يمكن اعتباره ضرورة إحداث ثورة مضادة بالمعنى الفلسفي، لو جاز القول، لا بالمعنى الأيديولوجي الحزبي الطبقي المصالحي الضيق.